Tuesday, August 30, 2011

عيد من غير كحك

امبارح جهزت القطايف من غير زبيب و الكركديه سكر خفيف زي ما بتحبهم، وفضلت أستناك و برضه ماجيتش. طب أعمل إيه؟ أيام رمضان كلها عدوا و انا كل يوم أعملك الأكل اللي بتحبه و أستناك على ترابيزة السفرة وبرضه ما بتجيش. وكل يوم بليل، ألم الأكل و أبعته للعيال تحت و أصحى تاني يوم أطبخلك من جديد.
انت ليه ما بتجيليش؟ ليه ما بتردش على مكالماتي؟ تليفونك فيه واحدة بترد علية تقوللي غير موجود بالخدمة، تأكد من الرقم المطلوب. انتي مجنونة يا بنتي؟ اتأكد من إيه هوة انا حافظة نمرة تليفون غير بتاعة ابني؟ اتأكد من إيه بس؟

الفرّان بعتلي الواد أشرف اللي بيشتغل عنده، يسألني فين خبيز الكحك يا حاجة، قلتله مفيش السنة دي. كحك إيه يا ابني، ما خلاص..أخبز كحك لمين؟

مش بأقدر أمسك نفسي كل ما اتخيل ان الظابط ابن الكلب اللي قتلك زمانه قاعد قدام التليفزيون و كرشه قدامه مترين، وماسك في إيده طبق قطايف بيلهفه، إلهي تقف في زورك يا بعيد ما تعرف تاخد نفَسك. إلهي تموت الليلة دي بالسكتة القلبية، إلهي يكسر قلبك قادر يا كريم زي ما انت مخليني عايشة من غير ضنايا.

جيراني بيخبطوا يطمنوا عليا كل يومين وانا ابتسملهم إني كويسة .. ماهو لازم أمثل .. هوة يعني عمر حد فيهم هيحس باللي انا فيه؟ كلام المواساة بتاعهم دة بأسمعه من الودن اليمين، و أخرجه من الشمال ... وساعات ما بسمعوش أصلاً و أبص لشفايفهم بتتحرك قدامي و أبقي نفسي أصوّت في وشهم يا ريت كل واحد يخليه في حاله عشان انتو مش حاسيين بالقهرة اللي انا فيها.

مين هيقدّر السبع سنين اللي دخت فيهم انا و الحاج الله يرحمه عشان نجيب الواد الحيلة دة .. دُخنا السبع دوخات ..
سبع سنين لف على الدكاترة، والفلوس الي بتيجي رايحة على العمليات والتحاليل والأدوية
سبع سنين وانا بسمع كلام زي السم من حماتي و سلفتي و مستحملة تلاقيح كلامهم ربنا يسامحهم
سبع سنين ... و انا أحمل و أسقط .. أحمل و أسقط .. و لما آخر حمل استقر، كان سني كبر، فتعبت تعب يا .. ربيييي... ولااا يوم الولادة... هممم.
يعني انا اتبهدلت أوي أوي عشان أجيبه و أكبره .. و آخرتها يروح مني برصاصة .. ليه و عشان إيه!
و انا مالي مطاطي ولا مش مطاطي، روح يا شيخ عقبال ما يمطوا في جسمك و تتعجن في النار.

حد هيصدقني لو قلت اني سايبة أوضته
 زي ما هي من سبع شهور؟ مش راضية أغيّر ملاية سريره علشان بقية ريحته فيها، كل كام يوم  أروح أمدد على سريره بس قلبي ما بيطاوعنيش أنام هناك.
ما وضبتش مكتبه عشان عايزة أسيبه بآخر حالة هوة كان سايبه عليها.
وانا قاعدة في البلكونة آخر الليل، لسة بأقشر له اللب والسوداني و أحطهم قدامه زي كل ليلة ..  وأفتكر رغينا سوا وافضل أناكف فيه ويناكف فية .. ونس .. ونس يا جدعان مش لاقياه دلوقتي

الناس كلها اتحايلت علية أروح أقدم ورقه في الشؤون الإجتماعية عشان أصرف التعويض، وأنا ابداً.
تعويض إيه و فلوس إيه .. هاعمل بيها إيه يا حسرة، دة انا اللي كنت بحوشله عشان جوازه.
.. أهو  يا دوب الحمد لله معاش أبوه يجيبلي حق اللقمة اللي بأكلها لحد ما أروحلهم هما الاتنين .. هم أكيد قاعدين مع بعض في الجنة دلوقتي .. انا نفسي أشوفهم أوي. انا ليه هنا لوحدي؟ يا رب خدني يا رب خدني.
بس لأ... مش قبل ما أشوف حبل المشنقة على رقبة الكلب العادلي و الواد الظابط دة، حق ابني يا عالم، انا تعبانة فيه.. ابني مش رخيص ...
انا واثقة في عدلك يا رب ... انا متوكلة عليك يا رب... يا رب قويني ...

ترمي رأسها على المائدة وتدخل في نوبة بكاء هستيرية وتظل هكذا حتى توقظها التكبيرات .....

الله أكبر الله أكبر  الله أكبر  لا إله إلا الله ... الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .. الله أكبر كبيرا و الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا .. لا إله إلا الله وحده .. صدق وعده

Sunday, July 03, 2011

ملخص ما حدث: مسرح البالون - وزارة الداخلية - التحرير

كتير من الناس لحد انهاردة مش فاهمة هو إيه اللي حصل بالظبط في مسرح البالون و التحرير ليلة 28 يونيو. بعد ما شفت معظم البرامج اليومين اللي فاتوا و سمعت حكايات شهود العيان، قررت أنقل وجهة النظر الغالبة وأعرض الموضوع كله بإختصار شديد.

ماسبيرو:
مجموعة من الأشخاص المجهولين راحوا لأهالي الشهداء المعتصمين عند ماسبيرو  و قالولهم فيه تكريم عند مسرح البالون، يلا تعالوا. بعض من المجهولين أخدوا/سرقوا صور الشهداء و مشيوا وسط مسيرة الأهالي اللي اتحركت تجاه البالون، سيراً على الأقدام.

شهادة فتاة عن سرقة صورة الشهيد
http://www.youtube.com/watch?v=J8h3jyQOH1M   

مسرح البالون:
عشر أسر شهداء فقط اللي كانوا مدعوين للتكريم. مسيرة أهالي ماسبيرو وصلت، حاولوا الدخول، موظفين المسرح منعوهم و أتهموهم أنهم ليسوا أهالي شهداء. شباب مجهول بكميات كبيرة ظهر فجأة، يُقال ان فيه أوتوبيسات نزلتهم.
حدث هرج ومرج و الشباب تسلقوا سور بوابة الدخول، الشرطة جت، هاتك يا ضرب في الناس، قنابل مسيلة للدموع و صواعق كهرباء. أم الشهيد أحمد زين العابدين اتشدت هي و ابنها و بنتها و 9 شباب اتحولوا على قسم العجوزة و النيابة العسكرية بعد كدة.
الشرطه تعتدى على متضامن مع أهالى الشهداء، صوت صاعق الكهرباء مسموع جداً
http://www.youtube.com/watch?v=e6RGXqf_NPM

أم الشهيد أحمد زين العابدين تحكي وقائع اعتقالها والاعتداء عليها وابنتها في قسم العجوزة و القبض على ابنها:
 http://elbadil.net/%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D9%8A%D8%AF-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B2%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A8%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D8%B1%D9%88%D9%8A-%D9%84%D9%84/

والد الشهيد مينا يحكي تفاصيل أحداث مسرح البالون: http://www.youtube.com/watch?v=dPa9UczlFHw

وزارة الداخلية:
اللي حصل من الشرطة قدام المسرح كان النقطة الفاصلة اللي أثارت أهالي الشهداء و تضامن معاهم ناس كتير، اتجهوا لوزارة الداخلية، الناس هية اللي بدأت الضرب تعبيراً عن غضبهم انهم اتهانوا و اتضربوا قدام المسرح و للمطالبة بالإفراج عن من قُبض عليهم. اترمى طوب تجاه الأمن المركزي و اتكسرت عربيات، رد الأمن المركزي بالطوب و ابتدى الضرب المتبادل. تراجع الأمن المركزي في لحظة و اتنقل المشهد لميدان التحرير.

التحرير:
غاز مسيل للدموع بكميات خرافية، تراشق بالحجارة، ألفاظ نابية و رصاص مطاطي وخرطوش. عنف شديد وغير مبرر من الشرطة، و معركة استمرت للتاسعة صباحاً، بالرغم من أوامر العيسوي بوقف الضرب والإنسحاب من الثالثة فجراً.

الداخلية تشتم الشباب بألفاظ غير محترمة عبر مكبرات الصوت http://www.youtube.com/watch?v=3Fk0BoCl0N8

واضح هنا كمية الرصاص اللي اتضرب، التراشق بالحجارة و الظابط اللي ظهر بالسيفين راقصاً:  http://www.youtube.com/watch?v=WVrOrVEhgt8

صورة لمصاب ضهره متخرم رصاص مطاطي  
http://www.twitpic.com/5iienh

ملحوظات عامة:
- الشباب كانوا بيقلعوا التي شيرتات عشان يحموا نفسهم  من استنشاق الغاز المسيل للدموع و
يربطوا على الجروح، ف مش شرط ان ما دام شباب قالعين هدومهم يبقوا بلطجية

- الموتوسيكلات اللي كانت بتجري في وسط الميدا ن هية اللي كانت بتنقل المصابين،  لحد عربيات لإسعاف اللي كانت راكنة عند المتحف المصري. ف مش شرط اللي راكبين الموتوسيكلات دي بلطجية

- الشرطة رمت قنبلة غاز على وش ولد مباشرة، الولد ممكن يكون توفى. القنبلة مكتوب عليها ممنوع إلقائها مباشرة على أي شخص، صورتها هنا. http://www.flickr.com/photos/emanm/5892086344/in/set-72157627093949630
صورته و الفيديو:
https://picasaweb.google.com/104954019629897575707/2829JuneInTahrirAndBabElLuk?authuser=0#5624147749566671410
http://www.youtube.com/watch?v=xKgzTPEfrvg&feature=youtu.be&skipcontrinter=1

- الشرطة استخدمت قنابل غاز جديدة، انتاج مايو 2011 بالإضافة للمنتهية الصلاحية، انا صورت واحدة انتاج 1995 -
http://www.flickr.com/photos/emanm/5892086986/in/set-72157627093949630/

صور و فيديوهات عامة للحدث:



Saturday, October 17, 2009

لم اكن أبداً طفلاً مدللاً


نشأت وحيداً بلا إخوة، لم تكن علاقتي بأمي مثل ما كنت أرى و أسمع من بقية الأطفال فى الحضانة أو المدرسة، كانوا يفترضون أني طفل مدلل كونى وحيداً.
فى نهاية كل يوم، يهرعون جميعاً من الفصول جرياً إلى أمهاتهم و يقفزون إلى أحضانهن. أما أنا، فعندما كان يسمح وقتها بإلتقاطى، فقط أُعلق يدي فى ذراعها و نتجه للسيارة صامتان، تتشبث هي بعجلة القيادة و تتيقظ للطريق أمامها، و ألصق أنا وجهي بالنافذة اتأمل الشوارع، و نظل هكذا حتى نصل للبيت.

هي ممن يقال عنهن المرأة الحديدية، وجه صارم ذو ملامح حادة، لا وقت لديها للمشاعر أو الأحاديث الطويلة، عملية إلى أقصى درجة وعلى قدر من العصبية أتعجب من قدرة أبي على التعايش معه.
طوال أعوامي، كانت منكبة دائماً على مكتبها، بدايةً من المذاكرة للماجستير ثم للدكتوراة تباعاً، إلى تجهيز محاضراتها و تصحيح أوراق الامتحانات و كتابة مذكرات الجامعة.
بسبب أشغالها الدائمة، لم نكن تلك الأسرة التى تذهب إلى النادي يوم الجمعة أو تجتمع مع أفراد العائلة فى بيوت الأجداد ليلة الخميس أو حتى تلتف حول التلفاز لمشاهدة مسرحية كوميدية تعرض لأول مرة.

كم من المواقف بيننا لا أستطيع نسيانها، أصعبهم هو عندما كنت فى السادسة من عمري، كنت فى غرفتها، أعبث بحاجياتها وأبهرتنى القطع الملونة فى علبة مكياجها التى نادراً ما تُفتح، حتى انقلبت مني العلبة كاملةً على الأرض، و كانت ليلة سوداء.
ما ان رأت الفتافيت مبعثرة فى كل اتجاه حتى صدر منها صرخة مدوية و انهوت علىّ ضرباً و ركلاً بيديها ورجليها فى جميع أنحاء جسمي: "انت عارف دي بكاااااااام! أعمل فيك إيه! أرميك من الشباك و أخلص منك؟!ّ يا رب خده و ريحنى منه!".
عندما عاد أبي من عمله، وجد كل منا فى غرفته فى نوبة بكاء هستيري. كانت عيناي مثل كرات الدم ووجهى أزرق ممقوت و جسمي يرتعش كطائر قد تم ذبحه للتو. حملني على مستشفى قريب، وُضع ذراعي الأيمن فى جبيرة و كان التبرير حينذاك أني وقعت فى البيت أثناء اللعب.

ظللت فترة ليست بقليلة أخاف منها و أتجنبها، و لا أدرك معنى و سبب شتائمها لى و دعائها علىّ...
سألت أبي: انا عارف ان انا غلطان انى لعبت فى حاجة مش بتاعاتي، بس هى ماما كانت متضايقة أوي كدة ليه؟
أجلسني أبي على حجره و حكى لي ان ولادتي لم تكن بعملية سهلة، فقد احتاجا لإجراء العديد من العمليات حتى تم حملها، و من الشهر الخامس إلى ميعاد الولادة، كان قد أكد لها الطبيب أن جنينها سيكون بنت. كانت الصدمة فى غرفة العمليات بعدما أفاقت من التخدير، لأني انا من وجدت و ليست "نسمة" كما أرادت أن تسمي.
و عندما عادت إلى المنزل، جمّعت ملابس نسمة و طلبت من أبي أن يتخلص منها.
و أصبحت و أمسيت تبكي لليالٍ عديدة، و كانت جدتي من أمي هى من ترعاني فى أسابيعي الأولى.

من طفولتي إلى زواجي، لم تتدخل فى شئوني أو تسألني عن أى شئ متعلق بي أبداً، ما أرتديه، من هم أصدقائي، متى أعود مساءاً إلى البيت، مواعيد تدريبات النادي، مواعيد الدروس، حتى أهم و أصعب إختيارين فى الحياة؛ اختياري للكلية بعد الثانوية العامة و اختيارى لزوجتي. كانت كلماتها دوماً:
- "اعمل اللى انت عايزه بس استئذن باباك الأول"
- طب انتي رأيك ايه يا ماما؟
- انا ماليش رأى، قال يعنى اما أقولك رأيي هتسمع الكلام، ما انت فى الآخر هتنفذ اللى فى دماغك.. يبقى ليه وجع الدماغ من اصله بقة، شوف مع باباك.

أعترف الان أنى لم أحاول جاهداً فى التقرب إليها، حتى هدايا عيد الأم، عندما وجدت عدم اهتمام و تقدير منها لما أشتريه لها، أمتنعت عنها، لا أتذكر آخر مرة اشتريت لها هدية، ربما من عشر أو خمسة عشر سنة.

الآن و في هذه الدقيقة، ترقد أمي فى سريرها، مغطاة بالأبيض و نحن فى انتظار عربة نقل الموتى. أجلس انا فى مدخل البيت؛ لا أذرف دمعاً و لا أدري إن كنت حزين، و لكن أشعر بالندم على أنى لم أُعلمها يوماً أنى كنت دوماً اتمنى ان تحتضنني.

Saturday, May 30, 2009

زى كل يوم


أستيقظ فى العاشرة صباحاً مثل كل جمعة. أجدها جهزت الإفطار المعتاد لليوم، البيض المسلوق، الجبنة البيضاء، الزيتون الأسود و العيش الشامي. إفطار أيام وسط الأسبوع يختلف، فول ومربى فقط، يتغير نوع المربى من الفراولة للجزر للتين أو المشمش، على حسب المزاج.

أخذ حمام الجمعة، نفس المنشفة الرمادية المخططة الباهتة كأنها غسلت مليون مرة مع أني أشتريتها من شهرين فقط.

أفتح دولابي، نفس بنطلون الجينز المتآكل، نفس الخمس جوارب، نفس الثلاث بنطلونات، نفس القمصان اليومية، أريد أن أشتري قميص جديد، و لكنها حرّمتني أن أفعل ذلك. تستخدم الكلور فى الغسيل، فأصبحت جميع ألوان ملابسي باهتة.

أعود إلى المنزل بعد صلاة الجمعة، لأجد البيت غارق فى نفس رائحة البخور الأسبوعية. البخور التى أشتريها من نفس العطار أول شارعنا. كل مرة يلقي على مسامعي أحاديثه المملة عن تفرده فى استيراد تلك البخور من الهند و عن مكوناتها الطبيعية و مميزاتها و عن العائلات التى ترسل له سائقها الخصوصي كل فترة ليجلب تلك النوع المميز بروائحه المختلفة. أخذ نوعي الدائم و ارحل.

أدخل إلى غرفتي لأمدد جسدي لساعة قبل الغذاء. نفس الملائة التى تتبدل كل أسبوع مع واحدة أخرى، نفس البطانية الواحدة التي تشبه ما يوزعوه فى الجيش، امم كم أتمنى أن اتدفأ ببطانية كتلك التى كانت فى اعلانات ساراتوجا.
أدفس وجهي فى الوسادة، لا تسمع أذناى من السكون غير نفس دقات الساعة، صوت الثلاجة، تنقيط المياة فى الحمام، نداء بائع الجرائد، صراخ الأطفال و هم يلعبون الكرة.

أستيقظ من نومي على سعال شديد، مش ممكن، تستخدم المبيدات الحشرية كأنها معطرات للجو.

على المائدة، نفس الأكل؛ فراخ محمرة، أرز و صينية كوسة فى الفرن. انها دائماً إما كوسة أو فاصوليا خضراء أو بطاطس، كم أشتاق إلى الملوخية أو ..
- انتى ما بتعملنلاش بامية ليه؟
- بامية؟ و انت من امتى بتحب البامية؟
- اهه بقة .. نفسي فيها
- ماشي يا سيدي، الجمعة الجاية اعملهالك
- و ليه الجمعة؟ ليه مش بكرة؟
- مالك يا راجل؟ مش عاجبك حاجة ليه انهاردة!
- آل يعني هية فارقة معاكى!
- يا فتاح يا عليم، خلينا نكمل أكل على خير الله يخليك.

بعد الأكل نرتمي أمام التلفزيون و البنت تلعب حولنا، جدائل شعرها ملفوفة بنفس الشرائط الحمراء فى نفس شكل الضفيرة اليومية. أنادي عليها و أُجلسها أمامي، أحل ضفائرها و أمرر أصابعي لأفك التشابكات و التداخلات، أحاول الابتكار و كلما انتهي من فكرة، أنظر لوجه البنت فلا تروقنى فأحل شعرها من جديد، و هكذا حتى سويته لها فى الآخر على شكل ذيل الحصان التقليدي.
تجلس زوجتى بجانبى لا تصدق ما تراه مني، البنت عمرها ثلاث سنوات، لم أهتم يوماً بشكل شعرها و لا لبسها.

أقبض على ريموت التلفزيون بقوة و أُخرج كبتي فى الضغط على أزراره و أتنقل بين القنوات، تمثيل ممل و أغاني تافهة و برامج مكررة و نساء تلف العقل.. أوفف .. انا نازل القهوة.

أنادي على الصبى
- عندكو إيه يتشرب انهاردة
- إيه يا أستاذنا، بتسأل و كأنك اول مرة تشرفنا
- معلش يا سيدي، سمعنا تاني، عايز أختار حاجة جديدة
- عناب، قرفة سادة، قرفة بالحليب، جنزبيل بالحليب، سحلب، شاي بالنعناع، كركديه، ينسون، حلبة حصى .. هة مين قال كمان.. ايه يا عمنا في إيه؟
- ما عندكش موز باللبن؟
- أفندم؟ لا والله، لو عايزه ضروري يعنى، فيه كافتيريا فى أول الشارع، بس خلي بالك دول حراقين أوي
- حراقين إزاي يعني؟
- بيدّفعوك عشرين جنيه، شربت موز شربت مية، هتدفع .. يا باشا خليك منورنا و انا هاروقك آخر تمام
- لأ خلاص شكراً

نفس نشرة أخبار التاسعة، نفس المذيعين، نفس الأخبار؛ قتل، انفجار، قنبلة، اعتصام، مظاهرة، و ما حولي هي نفس الأصوات اليومية من أحجار النرد و الدومينو، غلظة سعال المدخنين، كركرة الشيشة و صيحة فائز فى دور كوتشينة.

أرحل من القهوة و أسير لفترة طويلة حتى أصل لكورنيش النيل، أجلس على دكة و أسرح فى الألوان المختلفة على سطح النيل حتى أقع فى النوم.

Thursday, April 30, 2009

صاحبة كل الناس


قابلتها صدفة، لم تتغير كثيراً، فقط بطنها منتفخة أمامها، عانقتنى بشدة و قبلتنى بحماس لم أتوقعهما، لقد مرت عشر سنوات منذ تركنا المدرسة و لم نتقابل منذ ذلك الحين. لم نكن أصدقاء قريبين و لكن كانت هى أكثر الشخصيات تودداً لكل البنات. "صاحبة كل الناس" كما كان يطلق عليها.

تبادلنا الحديث عما فعلته بنا الحياة فى السنوات الماضية و ما آل إليه حالنا، سألتنى إن كنت على صلة بأى من البنات، فأجبتها بالنفى. أخرجت هاتفها من حقيبتها و هى تسرد لى أسمائهن مؤكدة أنها تحتفظ بأرقامهن جميعاً و حفِظت رقمى. قررَت أن تلك فرصة مناسبة لتنظيم لقاء كبير و انها ستبلغنى الأسبوع القادم بالميعاد و المكان.

و قد كان، ذهبت فى رداء أنيق متخوفةً من تلك المقابلة، وجوه لم أرها منذ زمن، لا أتذكر الكثيرات منهن، سيسألننى لماذا لم أتزوج بعد و سندخل فى الحديث السخيف عن الرجل المناسب و الوقت المناسب و النصيب و هذا الكلام الممل.

أصل إليهن، يصدمنى العدد الهائل، أتمتم فى سرى "أمّا صحيح صاحبة كل الناس". بعد التحيات و السلامات، تحكى كل واحدة عما وصلت إليه.
أنصت كثيراً؛ من تُحب غير سعيدة، من لا تُحب غير سعيدة، المتزوجة غير سعيدة، غير المتزوجة غير سعيدة، من يلتف حولها أطفالها غير سعيدة، من لم تُرزق بأطفال بعد غير سعيدة، من تعمل بشركة كبيرة غير سعيدة، من تعمل بشركة صغيرة غير سعيدة، من لا تعمل غير سعيدة. أتسائل، كلهن يتكلمن عن "السعادة" من أفقهن الضيق الخاص، و لكن هل يعلمن ما هي السعادة الحقيقية؟

مع كثرة عددنا، انفصلت كل اثنتان فى حديث جانبى، و التقطت أذناى بعض الجمل المتناثرة ..

- علشان كل راجل عايز يتجوز امرأة جميلة، و كل راجل متجوز بيلعن حظه أن مراته مش بالجمال الكافى اللى كان نفسه فيه و يفضل يعايرها بالكلام أو حتى بالصمت أنها مش زى فلانة أو علانة. اللى نفسى أفهمه ليه ما بيسألش نفسُه الأول إن كان يستحق أصلاً الجمال اللى بيتمناه دة و إن كانت فلانة أو علانة هيرضوا بيه من الأساس.
..
- لأ انا دايماً بأحلم أنى فى موقف محتاج إنقاذ، و أنى بحاول أصرخ و صوتى كانه أختفى، مش عايز يطلع، و لا حتى مبحوح.
..
- انا بقى عشان بشتغل فى الحكومة، لما بأنجز الأوراق بطريقة سلسة لحد، بيفتكرونى بعمل كدة علشان أخد المعلوم. كذا مرة حد يدينى ظرف و يستغرب أوي لما أرفض.
..
- بس انا فعلاً كل ما أتكلم مع أى شاب بقالي فترة مش قليلة، بأحس انى أعقل منه.
و ما تقولوليش "احتمال لسة ما قابلتيش الشاب المناسب"، لأن انا بسمع نفس حوار العقل دة من بنات كتير اوي أعرفهم و ما أعرفهمش.
..
- طب و دكاترة إيه اللى انتى بتتكلمي عليهم؟ الطب أصبح معناه تجارة الأعضاء و سرقات الكلى وعمليات الليزر والتجميل و بس.
..
- حلو اوي موضوع دراسة علم النفس دة، طيب انا عندي سؤال محيرني بقاله كتير؛ لما الإنسان بيفقد الذاكرة، بيفقد مشاعره برضه؟
..
- انتى واخدة بالك انتى بتقولي إيه؟ انتى معترضة أوى ان السواق طلب منك تلاتة جنيه زيادة، و من شوية بتشتكى من ان الأكل ما كانش حلو فى المطعم اللى دفعتى فيه متين جنيه و ما كانش يستاهل. انا عندي ملاحظة هنا، انا واخدة بالي ان كلنا، مش انتي بس بنبخل ندفع فلوس أكثر لو كان أجر إنسان، بس ما عندناش مانع ندفع نفس الفلوس فى أي حاجة مادية حتى لو ما كانتش ليها قيمة أوي؟
..
- زمالك؟ حرام عليكي، هوة لسة فيه حد بيشجع الزمالك؟ بس عارفة؟ بعيداً عن أهلى ولا زمالك، انا بحسد لعيبة الكرة دول على حاجة واحدة؛ الوقت بدل الضائع اللى بياخدوه، ليه مفيش فى حياتنا وقت زى دة؟ اشمعنى همة؟
..
- قلتلها انا عايزة فلوسي ترجعلي، ازاى متخيلين انى هأقف أخد أيروبكس مع مدربة وزنها تقيل و بطنها باينة بالشكل دة.
..
- انتى متعرفيش يعني ايه انك تستني الاتوبيس فى الحر و الشمس لمدة ساعة و نص، و لما ييجي، متعرفيش تطلعى من كترة الزحمة، بجد احساس مُهين جداً.
..
- يا ريت ألاقى البطيخ يتباع مكعبات جاهزة، بدل تقشيره، و يا ريت لو كان من غير بذر كمان، انا أول واحدة هاشتريه لو نزل السوق كدة.
..
- ديمقراطية إيه اللى بتتكلمي عنها؟ دة انتي فى بلد الواحد يسمعك بمنتهى الاهتمام، و يديكي فرصة تقولى كل اللى عندك، و بعديها يقوم منفذ اللى فى دماغه برضه.


أصاب بدوار و صداع شديد من كثرة الثرثرة و الصوت العالي و تداخل المواضيع، أنسحب بهدوء و بدون استئذان.


Friday, March 27, 2009

جمع مؤنث سالم


كما هو الحال كل يوم، تعود من عملها فى الثالثة و النصف عصراً، تتجه إلى المطبخ لتجهيز أكل اليوم. اشترط عليها من فترة الخطوبة أنه لا يحب الأكل البائت، لا يمانع أن يتكرر نفس نوع الأكل و لا يمانع أن يكون بكمية قليلة، و لكن شرطه أن يكون طازج ليومه.

يصل هو فى الخامسة و النصف، و تكون المائدة جاهزة فى السادسة تماماً، أمامه السلطة والحساء الذى يتصاعد منه البخار، و أى شئ من طبق اليوم.

تبادلا الحديث أثناء الأكل عما دار عليه يومهما، و بعدما انتهيا، قام و ترك طبقه كالعادة. نظرت إلى ظهره و همت أن تصيح به أن يرجع و يساعدها فى نقل الأطباق إلى المطبخ و لكنها آثرت الصمت؛ لم ترد ان تبدأ مشاجرة اليوم.

تمدد هو على الأريكة فى غرفة المعيشة و بدأت أصوات البلاى ستاشين تملأ البيت.
لملمت هى ما كان على مائدة الطعام ووقفت لتغسلهم، انزلق طبق منها فى الحوض و انكسر، أخذت تجمع بقاياه فجرحت إصبعها. نادت عليه، لم يسمعها.
فتحت المياه و تركتها تحنو عليه و انسابت الدموع على خديها؛ "اشمعنى هوة جه أكل و دخل يلعب و هيخش ينام بعد كدة و أنا اللى معكوكة هنا لوحدى، و هو أنا ما ليش نفس ألعب أو أنام يعنى؟"

أوووووه ياهووووووووووووو .. سمعت أصواته المتحمسة تأتى من الغرفة، تمتمت فى نفسها "طب يا رب ما تكسب.. هيه"

مرت من أمامه حاملةً سبت الغسيل، تتدلى منه أكمام قمصانه، سألته "عندك حاجة عايز تغسلها؟". لم يرد. "قال يعنى الموضوع محتاج تركيز أوى، يا أخى رد عليا!".
- طب مش عايز تشرب حاجة؟
- هه؟ لا لا كمان شوية استنى بس أحسن فاضل 20 ثانية و الجيم يخلص

أدخلت الملابس الغسالة و أدارتها، ثم جمّعت ما كان على الحبل و مرت أمامه ثانيةً متصنعة ثقل ما تحمله، و لكن لا حياة لمن تنادى.
فى غرفتهما، سوت الملابس و رتبتها على الرفوف، تعمدت إسقاط أشياء لعل وعسى أن يأتى على الصوت، و لكنه لم يأت. آلمها ظهرها، تتعاطى الكثير من المسكنات و لكن لا فائدة، لم تتحمل، اتجهت و هى محشودة بالغضب لتواجهه.
لم يفاجئها المشهد؛ رأسه ملقاة للوراء و رجلاه ممددتان على الطاولة و غطيطه يكاد يكون مسموعاً. اغتاظت و اشتد جنونها.

تركته و دخلت لتتزين، ارتدت لون مبهر و خلخال و قرط متدلى يصدر أصواتاً رنانةً، و نثرت من عطرها النفاذ.

هزت كتفه، حبيبى مش تقوم نقعد مع بعض شوية؟
- اممم
- يلا عشان خاطرى، انا كنت عايزة اتكلم معاك فى موضوع
- اممم
- طب فتح عينيك و بصلى كدة .. حاول
- امممم
هزته بشدة صائحة بعصبية: طب اتفضل قوم نام فى السرير، قوم!
- اممم حاضر

اتكأ عليها مترنحاً حتى وصل للسرير، لفته بالغطاء جيداً كأنه طفلها الصغير، جلست بجانبه تتأمل ملامح وجهه، ربتت على شعره و قبّلته على جبينه، ثم ذهبت لتلقى نظرة على الغسالة التى لم تنته بعد.


Friday, February 27, 2009

لستُ جميلة


بدأ الموضوع فى المدرسة؛ كانت هى فى المرحلة الابتدائية و أختها فى المرحلة الاعدادية، تتقابلن يومياُ فى ساحة المدرسة فى الفسحة ليتقاسمن ما معهن من سندوتشات و حلويات.

سأل أصدقاء الأخت الكبرى عنها.
- دى اختى الصغيرة
- أختك؟؟؟؟ ايه دة مش شبهك خااااالص
- مش شبهى إزاى يعنى؟
- يعنى .. ممم ... مش شبهك و خلاص

تأملت وجوهن وهن يحاولن إخفاء ضحكات مكتومة و استغربتهن.
عندما عادت إلى المنزل، دخلت غرفتهن المشتركة و أغلقت الباب عليها، أمسكت صورة أختها فى يدها، و تسمرت أمام المرآة لمدة نصف ساعة كاملة تقارن بين وجهها و الوجه الذى فى الصورة، ثم اتجهت إلى أمها فى المطبخ.

- ماما، ممكن تشرحيلى انا ليه شعرى ناشف و واقف و مها شعرها ناعم .. و كمان ليه انا سمراء و وشى مليان حبوب و مها وشها أبيض و مفرود
- بسم الله الرحمن الرحيم! ايه يا حبيبتى الكلام دة، انتى اتكلمتى مع مين انهاردة بالظبط
- لو سمحتى يا ماما ردى علية

أخذت تقنعها بالكلام المعروف ان الله يخلق كل انسان بطبيعة مختلفة عن الآخر، و انه لا يوجد انسان كامل، و ان الجمال جمال الطباع و الشخصية أكثر من الوجه

و فى النادى، عندما ألحقتهم أمهم فى التدريب الصيفى لفريق كرة اليد، تعجب الكابتن من أنهن أختين. و مع مرور الأيام، بدأت تضيق ذرعاً بعلامات التعجب التى تراها فى عيون كل من يتعامل معهن سوياً.

سمعت جدتها تحاور أمها يوماً..
- انتى لازم تدلعى بنتك دى شوية، بالمنظر اللى انتى سايباها بيه دة مش هتتجوز اما تكبر
- سايباها بيه؟ سبحان الله .. انتى بتتكلمى كدة و كأنى انا السبب
- طب ما توديها لدكتور يشوف حل او علاج للحفر اللى فى وشها ديه
- ما انا سألت واحدة صاحبتى بس قالتلى علاج الحاجات دى مكلف أوى فـانا محتاجة اكلم باباها فى القصة دى الأول، هيقعد يقولى الميزانة و مش الميزانية و بناتك و انتى مدلعاهم و السيرة اللى ما بخلصش منها دى.

فى المرحلة الثانوية، حيث المراهقة و بداية مشاعر الأنوثة، كانت توفر كل مصروفها لشراء مستلزمات تجميل لها؛ جربت جميع انواع كريمات تفتيح البشرة، كانت تذهب لمصفف الشعر كل سبت لكى شعرها، ابتاعت ملابس بألوان زاهية و أكسسورات مبهرة، و لكن كانت دوماً تحرص ألا تكون مبالغة أو ملفتة.

فى آخر سنة جامعية، عندما أبدى شاب إعجابه بها و بجمالها، ابتسمت ابتسامة صفراء و أجابته فى سرها "هل تظننى امرأة غبية؟"
و لكنه كان صادقاً؛ رآها كذلك. و تطورت الأمور لصورة من بيت دافئ و طفلة صغيرة، فى الوقت الذى لم تتزوج اختها بعد.

Friday, January 23, 2009

أسانسير


بعد انتهاء مدة عمله كساعى مكتب فى وزارة الزراعة و إحالته على المعاش، أوصى كل معارفه و أصدقائه على البحث معه عن أى نوع من العمل، حتى وجد تلك الوظيفة، عامل مصعد فى مبنى إدارى مكون من ستة طوابق.

فى خلال أسبوعين فقط من تلك الوظيفة، استطاع أن يحفظ إلى أى طابق يتجه كل من يعمل بالمبنى و يُميز الضيوف عن العاملين عندما يرى وجوههم.

يصل كل صباح فى السابعة، يُبدل ملابسه و يقف امام المصعد فى تمام السابعة والنصف بزى العمل؛ سترة رمادية ذات أشرطة صفراء على الكتف الأيمن وعلى الجيب الأيسر، و أزرار ذهبية اللون يغلبها الصدأ.
حذاؤه أسود بسيط للغاية، جلده مشقق كدوائر متداخلة و تكاد تخمن عدد المرات التى قبع فيها ذلك الحذاء فى أيدى الإسكافى.

كلما فتح الباب لدخول الناس، يقول "سلاااامو عليكو" و كلما فتحه لخروجهم، يقول "مع ألللف سلامة"، لا يمل أبداً من تكرار تلك الكلمات مئات المرات يومياً بالرغم من عدم اكتراث الناس بسماعها، و لكنها بالنسبة له لغة حوار معهم، حيث أنه لا يعرف أياً من اسمائهم و لم يتسنى له فرصة التحدث إلى أى منهم. هو فى مكانه ليؤدى عمله فقط، لا يريد أن يُكون صداقات أو يترك انطباعات، يفضل أن يكون مستقلاً و "فى حاله" طوال اليوم.

تكاد لا تراه عندما تضغط أنامله على لوحة أرقام الطوابق حتى أن بعض العمال نشروا كلاماً أن لديه قدرات خارقة؛ ينظر بعينه للرقم على اللوحة فيُنفذ المصعد الأمر فى الحال.

ما أٍن يرتفع المصعد عن الدور الأرضى أو يهبط من أى دور، تجده يُصّفر بعذوبة و يُغمض عيناه مرات أو يرفع بصره إلى سقف المصعد من الداخل مرات أخرى، تلك هى عاداته و لم يتسائل أحد أبداً عنها، فهو بالنسبة للجميع حالة خاصة، إنسان هادئ وغريب الطباع و لكن لم يصدر منه قط ما قد يضايقهم.

فى فترة الراحة، يتجه للساحة الخلفية من المبنى و يُخرج غذاؤه من جيبه، ملفوف فى ورق جرائد. وجبته اليومية تتكون من رغيف من الخبز البلدى المحشو إما باذنجان مقلى، قرصين من الطعمية أو جبنة قريش و بيض؛ ما تجود به زوجته مما استطاعت أن تجده متوفر فى صباحهما. يفتح اللفافة و يكتشف نصيب يومه و يتمتم مبتسماً "الله يكرمك يا ام سعاد".

يجلس على الرصيف فى ظل شجرة و يداعب قطته المشمشية، يمرر أصابعه تحت ذقنها فتموء برقة، فيضحك ضحكة طفولية تُظهر ما تبقى من أسنانه بصُفرتها الداكنة.
فى نفس الميعاد كل يوم، بمجرد ظهوره فى الساحة الخلفية، تظهر تلك القطة من اللامكان و تلتصق به، مع أنه لا يُطعمها، فقط يلاعبها، و عندما يبدأ أكله، تجلس أمامه و تنظر إليه فى سكون.

يلتهم الرغيف سريعاً ثم يدخن سيجارتين تِباعاً لأنه لا يستطيع التدخين داخل المبنى، ثم يدس فى فمه قرص نعناع؛ لا يحب أن ينزعج أحد من رائحته داخل كابينة المصعد. يُغمض عيناه و يسند رأسه على جذع الشجرة و يغفو عشر دقائق بالتمام.

عندما تعطّل المصعد و جِئ بالفنيين لإصلاحه، وقف مُحدقاً فيما يفعلون، يبرر لهم "أصل انا بعرف أصلّح الأجهزة الكهربائية .. فأحب أتعلم يعنى"، لم يعترضوا، و الأكثر من ذلك أنهم طلبوا منه أن يشترك معهم.
و بالفعل، فى المرة التالية لتعطل المصعد، لم يُبلغ مديره، و استطاع هو وحده إصلاحه. أخبره بعدها؛ شرح له انه تعلّم من الفنيين فى المرة السابقة و انه أصبح على دراية بآلية عمله.
أعجز كلامه المدير و لم يستطع أن يوبخه بأن ما فعله ليس من مسؤليات وظيفته و أنه بذلك كان من الممكن أن يُعرض حياة بشر لخطر، و لكنه اتصل بالفنيين ليراجعوا ورائه، و عندما كشفوا على المصعد، أكدوا أنه تم إصلاحه بطريقة صحيحة.

السر الذى لم يبح به ابداً لأحد أنه فى الأصل يصاب بالدوار من المصاعد و لم يساعده على تجاوز ذلك لا وجوده اليومى في المصعد ولا عاداته الغريبة التى كان يفتعلها داخله ليشغل نفسه عن الدوار.

Saturday, December 27, 2008

مواقف من الوحدة


بعد يوم عمل طويل و شاق، ترتمى على الأريكة و تتمنى وجود من تستطيع أن تطلب منه كوب شاى دافئ.

فى ليلة شتاء باردة، تتمنى وجود من يلحظ ارتعاشك و يدثرك بغطاء آخر و يلفه حول جسدك من كل الاتجاهات.

عندما تتجبس رجلك و يُلزم عليك عدم ترك فراشك، و تود ان تغلق التلفاز ولكن الريموت بعيد عنك.

مع تناولك وجبة طعام أعددتها انت، تتمنى وجود من تسأله هل الملح خفيف أم أنها تهيؤات.

بعد الانتهاء من حمامك، تكتشف انه لا يوجد منشفة، تتمنى وجود من تناديه ليجلب لك منشفتك.

عندم يهاجمك سعال شديد، تتمنى وجود من يجلب لك كوب ماء أو يضربك على ظهرك.

و انت بكامل اناقتك لاجتماع عمل سريع، ينفك فجأة زر قميصك، تتمنى من يخيطه لك على الواقف.

انت فى انتظار مكالمة مهمة و لكن يصادف أن يرن الهاتف و يدك لا تستطيع الرد، تود من يرد نيابةً عنك.

عندما تشترى فستان جديد، تريدين من يساعدك فى اختيار الإيشارب ذو اللون الملائم.

فى العيادة و اثناء انتظار دورك للدخول للطبيب، تتمنى وجود من يصطحبك اليها.

كابوس فى عز الليل يوقظك من نومك بانتفاضة أو رعشة، تتمنى وجود من تحكى له تفاصيل الكابوس و تدفن رأسك فى حضنه.

عندما يغلبك النوم فى اثناء القراءة، تتمنى من يأخذ نظارتك و يضعك فى الفراش.

عندما تنقطع الكهرباء، تريد من يشاركك الصمت الذى حل بالمكان، و يهون عليك خوفك من الظلام.

فى ليلة عيد ميلادك و فى الساعة الثانية عشر ليلاً، تتمنى وجود من يقول لك كل سنة وانت طيب وجهاً لوجه بدلاً من الرسائل التى تستقبلها على هاتفك.

عندما تنظر لفنجان القهوة على الطاولة امامك، تتمنى وجود من يشاركك كلمات بسيطة حتى تبرد القهوة و تستطيع شربها.

و عندما ينتهى منك الكلام، تتمنى وجود من يتفهم صمتك.

Sunday, November 30, 2008

خوفاً من انفلونزا الطيور


فى أثناء شرائه لإحتياجاته من البقالة، يشير للبائع أنه يريد البيض المغلف فى علبة بلاستيكية و ليس الكرتون، يعرف ان سعره ضعف الثمن.

فى مطبخه، ينحنى ليجلب بعضاً من مسحوق الغسيل المتروك على الأرض بجانب الغسالة.
فى كوب صغير، يخلط المسحوق بالماء لترتفع الفقاقيع.
يفتح علبة البيض و يضعها فى الحوض، و يفتح المياه عليها لتغمرها.
يفتح الدرج الأخير من دولاب الطبخ ليجلب اللوفة المخصصة لغسل البيض.
يرتدى قفازه المطاطى و يغمس اللوفة فى المسحوق، يمسك أول بيضة، وبرفق شديد يمسحها باللوفة يميناً و يساراً ثم يقلبها لمسح جوانبها الأخرى، يضعها فى علبة أخرى فارغة يحتفظ بها لهذا الغرض. يكرر تلك العملية مع الخمس بيضات الباقيات.
يدعك جيداً العلبة الفارغة، مع التأكد من تغلغل المياه فى جميع تموجاتها و أركانها.

يشطف البيض واحدة واحدة تحت المياة الجارية مع دعكها بتروٍ.
يخلع قفازه و يجلب المنشفة المخصصة لتجفيف البيض من درجها، ثم يفتح الثلاجة ليُخرج لوحة البيض المُفرّغة. يحتوى كل بيضة بالفوطة، ثم يضعها فى اللوحة بمنتهى الحذر. بعدما ينتهى، يُرجع اللوح للثلاجة و يُغلق بابها بإحكام.

يرمى ما تبقى من المسحوق فى الحوض، و يغسل القفاز و اللوفة و المنشفة جيداً و يتركهم ليجفوا حتى يُعيدَهم مكانهم. يرمى العلبة القديمة، و يجفف العلبة المغسولة ليستعملها فى المرة القادمة.

فى الصباح التالى، سلق بيضتين، أحس أن الطعم متغير، و ساوره القلق ان البيض ليس بطازج. تخيل ان معدته تحتوى الآن على قطمة غير طازجة فأحس بالاشمئزاز. فتح الثلاجة و جمّع البيض فى كيس و قذفه فى سلة القمامة.

Wednesday, October 29, 2008

فيات 127


توقفت اليوم سيارتى للمرة الألف، أصبحت تخذلنى كل الأوقات، اتصلت بالميكانيكى و جاءنى بعد ساعة، فتحها و انزلق تحتها ثم نظر لى نظرة استرجاء: لازم تكلم حد يجى يقطرها لحد الورشة.
أقف عند الميكانيكى و انظر بشفقة إليه؛ إن لم يكن طيب الأصل، ما كان مد أى يد عون لى.
- يا أستاذ حرام عليك، والله ما بقى ينفع خلاص، بجد هى كدة جابت آخرها
- و العمل؟
- حضرتك لسة بتسأل؟ ما انا كل مرة اقولك بيعها، لكن دلوقت انا محتاج أقولك انها بقت لازم تتكهن!

لا أستطيع استيعاب ما يقوله، لا أستطيع ان أفرط فيها مهما ساءت حالتها.
منذ وعيت على الدنيا، و انا أرى لهفة أمى و هى تجرى على النافذة عندما تسمع نفير تلك السيارة؛ سيارة أبى. كان يُصدر صوت نفير بطريقة مميزة إشارةً لها بوصوله.
فتنظر من فتحة الشباك و ترقبه و هو يركن، ثم بعد خروجه من السيارة، يرفع رأسه و يبتسم لها ابتسامة خاصة.

و منذ خطواتى الأولى، عودتنى أمى ان أميز صوت السيارة و أنطلق لرؤيتها و رؤية أبى مهللاً كجميع الأطفال "بابا جه بابا جه"؛ فقط مكرراً ما أحفظتنى أمى إياه.
لم يحدث ابداً انها لم تسمعه، إلا مرات قليلة جداً عندما لم تستطع ترك ما بيدها و كان عليها تبرير عذرها مع دخول أبى الشقة و طبع قبلة على جبينه للمصالحة.
لن يصدقنى أحد أن أمى و أبى استمرا فى فعل ذلك حتى آخر لحظات حياتهم؛ كنت شاباً طولاً و عرضاً فى الجامعة و أرى أمى تتجه نحو النافذة بإشارة من أبى، و كنت انا قد توقفت عن فعل ذلك منذ بدأت مراهقتى و تمردى و محاولاتى إثبات أنى لم أعد طفلاً.

سألتها يوماً:
- انتى إزاى ما زهقتيش؟
- احنا اتفقنا من عشرين سنة ان دى من الحاجات الرومانسية اللى لازم نحافظ عليها و ما نخليش الجواز يقتلها
- يعنى انتى بتعملى كدة وفاءاً للوعد بس مش أكتر؟
- لأ طبعاً، بعمل كدة عشان انا حبة كدة، لأنى كل ما باسمع الصوت و أقرّب من الشباك، بأحس انى لسة عروسة جديدة و انى قضيت يومى كله مستنية أبوك يرجع من شغله فى الحتة المقطوعة اللى احنا فيها ديه، آه .. اللى كانت زمان مقطوعة.

لم يوقفهما ابداً الشجار أو الخصام عن تلك العادة، كان الفرق أن الابتسامة يحل محلها نظرة حنين عنيدة.
و عندما مرض أبى و كنت أقود له السيارة، كنت أفعل كما اعتاد أن يفعل تماماً، و ظلت أمى ترقبنا حتى توفى أبى و لحقته أمى بوقت بسيط.
ظلت تلازمنى حركة لا إرادية بعدها لفترة؛ أنى ألتفت فجأة عندما أسمع صوت سيارة شبيه، حتى إن كنت انا من يقود.

أحببت أن تنتقل تلك العادة الجميلة لأسرتى و ان نرتبط بنفس السيارة و بنفس العلامة المميزة من نفيرها.
بعد زواجى بشهرين، اقترحت الفكرة على زوجتى، و فوجئت بإجابتها
- إيه شغل العيال دة .. هو احنا لسة مراهقين ؟

و بهذه الإجابة التى أفحمتنى، لم اخبرها عن قصة أمى و أبى، و لكن بقيت الفكرة فى عقلى حتى وَعىَ طفلى، علّمته و عوّدته، و لم تبد هى اعتراض حينذاك.

- طيب لاصمهالى دلوقتى و انا هافكر فى الموضوع دة، بس ما عندكش زبون عنده نفس الموديل و اللون و عايز يبيع عربيته؟

Tuesday, September 23, 2008

تانجو


نقف بمواجهة بعضنا البعض و نفرد ذراعينا عن آخرهما، أنت من ناحية و أنا من الناحية الأخرى. نتقدم بخطوات ثابتة لنتقابل فى منتصف المسافة، نضم أطرافها، فتلمس أناملى أناملك.

نرجع للوراء لنقطة وقوفنا الأولى، مشدودة هى و كأنها رباط المحبة بيننا. تُثبّت عينك تجاه عينى و نكرر التقدم و الرجوع كأننا نرقص تانجو، نطويها، فتلمس أصابعى أصابعك.

تصبح الملاءة قطعة صغيرة مربعة، نضعها على الرف و نُربت عليها و كأنها طفلتنا، ويستكين كفى بالكامل فى كفك.

Tuesday, August 26, 2008

ساعة من الهواء الساخن


قبلما تُجلسنى الفتاة على جهاز مُنشِّف الشعر، أوصيها أن تغطى ظهر أذناى بقطن كثير، و تحبُك المنشفة على رقبتى. أدخلَت رأسى و تأكدت انها لا تتعرض لأى هواء خارجى ثم ضبطت الجهاز على ساعة.
- ساعة ليه، دة كتير أوى
- معلش يا آنسة، انتى مش عايزة شعرك يطلع كويس؟ لازم ينشف كويس.

علىّ أن أبقى حبيسة ساعة كاملة تحت هذا الجهاز اللعين، أكره العلماء الذين لم يخترعوا بعد آلة لتنشيف الشعر فى وقت أسرع من ذلك.
لم أحضر كتاب لأقرأ فيه، لا يتبقى لى إلا أن أشاهد من حولى حتى يسرقنى الوقت.

تجلس أمامى سيدة عجوز تكاد العروق تنفجر من وجهها وذراعيها، انتهت للتو من كي شعرها، تلفه برباط مطاطى أصفر (أستك الفلوس!)، و تضع عليه إيشارب مربع. حقيبتها، عقدها وقرطها من الزمن القديم جدا. تقوم من كرسيها بصعوبة و تنظر لنفسها فى المرآة ببهجة و تدفع الحساب و تنصرف.

فتاة تطلب قص شعرها الطويل إلى قصير جداً، أردت أن أهب صائحةً فيها "اعقلى يا مجنونة، فى غيرك بيفضلوا خمس سنين علشان يوصلوا لطول شعرك دة، حرام عليكى .. آه يا قهرة قلبى"، أنظر إلى الشعر و هو يتساقط من رأس الفتاة بالتصوير البطئ و أتخيل موسيقى هادئة تُعزَف في الخلفية، وأتأمل خصلات الشعر المتناثرة على الأرض و كأنها لوحة سريالية، من الممكن أن تُضاف لها بعض الخطوط الملونة وتصبح قطعة إبداعية.

بعض الفتيات العاملات في المكان شعرهن مصفف و بعضهن لا. هل تسمح لهن صاحبة العمل باستخدام المحل دون مقابل؟ و إن كان بمقابل، هل تحاسبهن بنفس سعر الزبائن أم لهن تخفيض؟ و هل تُدّون ذلك فى حسابات المحل؟

ألاحظ أن بعض السيدات يدسسن عشرة جنيهات بقشيشاً فى جيب الفتيات و ليس الخمس جنيهات المتعارف عليها.

من كثرة النداء عليهن، أحفظ أسمائهن: هدى، مها، شيماء، نجوى وهالة.
تُعجبنى نجوى، تعامل الزبائن بحميمية شديدة وتُشعرهن بأهميتهن، تُمطر كل سيدة بكلمات إعجاب وكأنها أجمل نساء الارض.
هدى عصبية جداً، أراها مستفزة أيضاً، لو كنت مديرتها لطردتها من المكان.
هالة المسؤلة عن غسيل الشعر، لا أشعر أنها تتعامل مع رأس إنسانة، أراها عنيفة نوعاً ما. بعض السيدات يجلبن الشامبو والبلسم الخاص بهن. الكمية التى تستعملها هالة منهن اكثر بكثير من الكمية التى تستعملها من شامبو و بلسم المحل.
شيماء الأكثر شعبية، عندما تدخل أى سيدة، تسألها مَن على الباب "تحبي حد معين معاكي؟" معظم الاجابات تكون شيماء، ليست بالوجه المبتسم لكنها سريعة و تعرف جيداً ما تفعله.
مها مهمتها طلاء الأظافر، تنقع اليد أو القدم فى وعاء بلاستيكى لخمسة دقائق ثم تفرد كريم خاص وتدعك من الخارج للداخل فى صورة دوائر ثم تبدأ عملية الطلاء. أركز معها بشدة فى الطلاء الفرنسى، لا أفلح أبداً فى وضعه لنفسى، ربما أتعلم منها.

مع اعتياد المجئ، ترتاح كل سيدة مع فتاة معينة، بعضهن يتصادقن و يتكلمن في أسرار البيت و الجيران و يمتد الكلام لكثير من النميمة و أحيانا الغيبة.

أنظر إلى أصابعهن جميعاً لأبحث عن خاتم الزواج، لأحدد من منهن مخطوبة أو متزوجة أو آنسة. لا هدف لما يدور فى عقلى إلا قتل الوقت.

أنظر إلى الساعة، مرت نصف ساعة فقط، لا أستطيع احتمال الحرارة، أشعر بالصداع
- عندكو أسبرين؟
- لأ
أصمت و أقول فى سرى "آه و تجيبوا أسبرين ليه، ما انتو مش فارقة معاكو، هوة انتو اللى قاعدين متذنبين كدة و لا الغلابة اللى زيى"، يقطع حبل أفكارى و إستنكارى حوار بجانبى

- هو بكرة كام … محرم؟
- و الله مش عارفة يا مدام، هو انا فاكرة انهاردة ايه من أيام الأسبوع أصلا…
- عندك حق، بس الواحد عايز ماينساش عاشوراء
- آاااااه، همك على طبق العاشوراء، حضرتك اللي بتعمليها ولا بتجبيها جاهزة؟
- مش بسأل علشان كدة خالص، انا بسأل عشان الصيام
- صيام؟!! ليه؟!؟ و هو عاشوراء بيتصام ليه بقة إن شاء الله؟؟!!
- سُنة عن الرسول عليه الصلاة و السلام، علشان دة اليوم اللي موسى انشق له البحر و اتعمل طريق
- "فاغرة فمها": هة؟ العلم نور برضك، ما دام سُنة يبقى نصومه طبعاً.

تدخل بنت تسأل عن أسعار و تفاصيل عرض ليلة الزفاف، ما المدة الكافية للحجز قبل الفرح، هل العرض متضمن لف الطرحة أم تصفيف الشعر و المكياج فقط.

أحب ألوان مناشفهم؛ مخططة لبنى و أزرق، مرصوصة فى الدولاب بنظام شديد على حسب أحجامهم.

يرن الجرس للتنبيه بانتهاء الوقت، و يتوقف الجهاز عن العمل أخيراً، أخلع رأسي منه و أتنفس الصعداء.

Monday, July 28, 2008

نملومانيا


"يتميز النمل بالحياة في جماعة والتعاون في العمل بنظام شديد. يدّخر النمل الطعام في الصيف ويخزنه حتى يستطيع مواجهة برد الشتاء الذي يمنع أفراده عن الخروج من أعشاشهم. النمل أكثر المخلوقات نظاماُ و هو في حالة عمل دائم ومستمر، نجاحه قد تعدى نجاح البشر..." هذا ما تعلمناه جميعاً فى المدرسة.

فى تلك المرحلة من الطفولة، كنت اتربع على الأرض و بحذر شديد أراقب خط النمل لساعات طويلة و اتعجب و استنكر بشدة لماذا يتخذ حوائط منزلنا مقراً لبيوته.
و بشقاوة الأطفال، أسكب قطيرات من الماء على مجموعة النمل، ليعجبنى الفزع الشديد الذى يحل به.

حكاياتى مع النمل ممتدة مع تاريخ حياتى؛ ابتدائاً من علبة شيكولاتة بالبندق اهدتها لى جدتى و انا فى سن الخمس سنوات، وضعتها فى دولابى و فتحتها بعد أسبوع لأجد الشيكولاتة مليئة بالحفر، أكل النمل البندق و ترك لى الشيكولاتة خاوية.

استيقظت يوماً على صراخ أمى، جاءت لتوقظنى فوجدت بقع حمراء و لدغات عريضة لا حصر لها على وجهى و رقبتى. اعتدت أن أخبئ أقراص النعناع اللذيذة تحت وسادتى، تلك الليلة أخذت واحدةً و وقعت فى النوم قبلما أعيده تحت الوسادة، فتسلى النمل عليه وعلىّ حتى الصباح. ظل جلدى ملتهباً لساعات و أمى تبرده لى بالماء و مكعبات الثلج.
و فى ليلة أخرى، قرص النمل أخى فى عينه، فتورمت و ظلت منتفخة تحكه بشدة لفترة كبيرة من الوقت.

لن أنسى صرخة قريبَتنا بعدما قدمت لها أمى صينية الشاى، لأنها وجدت النمل يتنزه فى السكّرية، التى نحتفظ بها فى نيش السفرة. و كان موقفاً محرجاً إلا أن أمى تفادته بالشكوى و استرسال حيرتها فى عدم وجود حل لتعدى ذلك المخلوق على كل ممتلكاتها.

و مع توالى الأيام، كنت أرى نظرات الأسى و الغيظ فى عيون أمى فى كثير من المواقف بعدما يُنتَهك طبق من الطعام الذى تعبت فى تحضيره، أو بعدما تُفاجأ بنقصان في أكياس السكر المحفوظة فى دولاب المطبخ. و كنت دائماً و انا أغلى من الداخل أواسيها و أساعدها فى تنظيف الأرفف و تغيير ورق الجرائد و غسيل الأطباق و الأكواب و تجفيفها و رصها من جديد.

و لذلك و بعد سلسلة أحداث مأساوية فى نظرى، أعلنت الحرب علي ذلك المخلوق المغتصب السارق، و بدأت فى تجهيز الوسائل و الأسلحة الرادعة التى تؤدبه و تبيده من بيتِنا.

كنت أضع صفار البيض أو حبات من العنب البناتى فى ركن و أمُر كل ربع ساعة لأرى الأعداد تتزايد وأصبر و أنتظر لتتزايد أكثر و أكثر و أستلقى على الأرض أو أقف على كرسى لأراقبهم و لأحدد مكان جحرهم، ثم أمسك المبيد الحشرى و أرش بعنف شديد من نقطة البداية إلى نقطة النهاية. اعتبرت المبيد كأنه سيف حاد فى يدى أقطع به رقاب كل تلك الكائنات الصغيرة. و بعدما أنتهى، يبقى خط من النقط السوداء، اتأمل جثثهم المتناثرة و كأنهم أفراد جيش حلت بهم هزيمة مباغتة و تعترينى نشوة الانتصار.

نهرتنى أمى عدة مرات من كثرة استعمالى للمبيد الحشرى و حذرتنى انى سأُصاب بالسرطان.
لم تفلح المناديل الورقية المتوفرة فى البيت لأنها مجرد أن ابتلت بالماء ذابت، فأشتريت كمية كبيرة جداً من أكياس القطن، و قسمتها لقطع متوسطة و كبيرة الحجم لتكون جاهزة للإستعمال الفورى. جهزت أيضاً وعاءاً فيه خليط من الماء و الصابون.
و فى وقت المعركة، أغمز قطعة القطن فى الوعاء و أهوى بيدى على نقطة البداية و أمسح الخط مسحاً شاملاً، ثم أرمى القطنة فى وعاء آخر فيه ماء فقط لأرى الجثث الصغيرة تطفو على وجه الماء ثم ارميها فى الحوض و استمتع برؤيتها تُسحَب فى البالوعة و تختفى لحال سبيلها.

استشرت العطارين و جربت جميع وسائل التخلص من النمل؛ بدايةً من مسحوق النمل، و مروراً برش الخل فى الأركان و رسم خطوط النمل بالطباشير و حقن ثقوب الحوائط و الأرض بالجاز وتأجير شركات إبادة الحشرات و أخيراً و ليس آخراً إختراع العجينة التى تباع فى الصيدليات. و لكن هيهات، ما استطاع أى من تلك الأنواع وقف النمل عن الانتشار.

فى وقت الطفولة، كانت النملة مخلوق ضعيف بحق؛ نزول قطرة واحدة من الماء عليها معناه موتها فى أقل من الثانية، إنما الآن تجدها تحاول الهرب و هى منغمسة كاملة فى الماء ثم تخرج منه و كأن شيئاً لم يكن، فلم يعد الماء ولا أى وسيلة قتل من ما سبق مناسبة له، النمل أصبح سوبر باور.
إنه حتى يصل للمكسرات المحفوظة فى درج الثلاجة، حتى برودة الثلاجة لم تعد تعوقه!
كما أنه أصبح يتجمع على أنواع من الأكل لا تتوقع أن تجذبه مثل الجبنة الرومى و أكياس الخميرة وما يتبقى في فناجين القهوة!

اليوم أخذت أجازة من العمل، و انا صافية البال أعددت فى الصباح لفائف من الجلاش المحشو بالزعتر والأنشوجة واللحم المفروم و رصصتهم فى صينية فى ثلاثة أجزاء و حفظتها فى الفرن لأسويها قبل ميعاد رجوع أهلى للبيت بساعة. من كل مواقفنا السابقة، كان من المعروف أن الفرن مكان مُحصّن لا يقربه النمل، و لكنى فتحت الفرن لأجد الثلاثة أجزاء عبارة عن سواد حالك، أعداد غفيرة و تجمع لم أرى له مثيل؛ جيوش بمعنى الكلمة.

قذفت الصينية بكاملها فى الحوض و فتحت المياة على آخرها و صرخت صرخة واحدة و جلست على الأرض و انهرت فى بكاء متواصل.

Wednesday, June 18, 2008

يا مستعجل عطّلك الله


اجتمع به مديره بالأمس و حذره للمرة الأخيرة أنه سيضطر ان يُنهى عمله بالشركة إن تأخر يوماً آخر. لم يأت ذلك القرار الحاسم فجأة، و لكن سبق لمديره أن نبهه عدة مرات بأنه يجب ان يجد حلاً لموضوع وصوله للعمل متأخرأ، و لم تتحسن أحواله كثيراً، ثم تغير التنبيه إلى توبيخ شديد و متكرر لنفس الموضوع و كان ينضبط لأيام قليلة ثم يرجع إلى ما كان عليه. و مع كثرة شكاوى الزملاء من أن أشغالهم تتعطل بسبب تأخره الدائم، لم يجد المدير إلا قرار الفصل النهائى.

معتاد هو على الاستيقاظ على مراحل، بداية من مرحلة التقلب فى السرير و فتح العينين نصف فتحة و التثاؤب و غلق رنين المنبه الأول ثم الثانى، و منتهياً بمرحلة القيام مفزوعاً لفوات الوقت. ذلك بالإضافة الى ان لديه طقوساً مكررةً يؤديها كل صباح؛ حيث أنه من الرجال الذين يعتنون بأنفسهم ويولون اهتماماً كبيراً بمظهرهم.

حلاقة ذقنه عملية مهمة يعطيها وقتها الكافي؛ يقف أمام المرآة يتأمل ذقنه يميناً و يساراً، يفرد كريم الحلاقة على وجهه كأنه يخلط و يفرد ألوان زيت على باليتة رسم، ثم يبدأ بإزالة الكريم بإتقان، ثم يغسلها بالماء البارد و ليس الساخن لأن الماء البارد يفتح مسام البشرة؛ قرأ تلك المعلومة فى مقالة عن الاهتمام بالوجه. يكرر عملية الحلاقة مرتين حتى تصبح ذقنه ناعمة تماماً.

يكوي قميصه و سرواله بنفسه حيث لا يحبذ فكرة ارسال ملابسه للمكوجى؛ يخاف ان تضيع أى قطعة تخصه، أو تُحرق بدون قصد كما تكون الحجة الدائمة.
معظم قمصانه إما مربعات أو مخططة، يختار لون السروال مثل لون الخط في القميص أو لون أحد خطوط المربعات.
و بعد أن يضع مزيل العرق و كريم الشعر، ينثر من عطره على رسغيه و على جانبي رقبته و على ملابسه.

يختار الجورب و الحذاء مثل لون السروال، أسود أو بني أو بيج أو رمادي أو كحلي، ثم يضع نظارته الشمسية الأنيقة ذات الماركة المشهورة على عينيه و ينطلق الى العمل.

اليوم و بعد تحذير مديره، اخذ يفكر هل يؤدى طقوسه تلك في المساء حتى يوفر وقتها في الصباح؛ أم يؤجلها للصباح كما هو معتاد و لكن مع الاستيقاظ ساعتين مبكراً.

قرر ان ينجزها ليلاً، و لكن انتهى الامر به أن ينام الساعة الثالثة صباحاً. أخذ يحدق في حوائط غرفته و يتصور انه سيصل متأخرا كالعادة و انه سيُفصل فعلاً و معنى ذلك انه لن يرى هند التى اعتاد على رؤيتها الصامتة، كل يوم يقرر أنه سيكلمها عن اعجابه بها و انه يريد الارتباط بها، و لكن يصيبه الارتباك كلما أقدم على ذلك، و يؤجل تلك الخطوة لليوم التالى .. لم يعد هناك يوم تالى، و ما دام لم يستطع أن يكلمها و هم فى مكاتب متجاورة و يفصل بينهما حائط واحد، فبعد ابتعاده، من المؤكد أنه لن يراها ثانيةً.
معنى فصله أيضاً أنه لن يتناول فطوره من البيض الأومليت و الفول الاسكندرانى و الجبنة الرومى و كوب الشاى المحلى بأربع ملاعق سكر. يجهزه له عم حسين كل صباح و يضعه على مكتبه مع الدعاء له بالزوجة و الذرية الصالحة.

شعر باختناق من حرارة الجو، فقام و جلب المروحة، ثم ما لبث أن سقط في النوم، و لكن كانت حقاً ليلة مليئة بالكوابيس.
رأى نفسه جالساً على أرض مكتبه محاطاً بالكراتين المملؤة بحاجاته الشخصية و دفاتره، رأى وجوهاً كثيرة لا يعرفها تمر على مكتبه و ترمقه بنظرات خبيثة وغير مفهومة و وجوهاً أخرى تغلب عليها ابتسامات صفراء عريضة. سمع ضحكات عالية من الفتيات حديثات التخرج اللاتى التحقن بالعمل الشهر الماضى، و فوجئ بأطفال يخرجون له لسانهم و يحاولون إغاظته! وجد نفسه يبحث عن هند و لم يجدها و يبحث عن مديره ليتوسل إليه ليعطيه آخر فرصة و لم يجده أيضاً. اختلطت أمامه النظرات بالإبتسامات بالضحكات باللمزات بالوجوه المتداخلة، و هب من فراشه مذعوراً متمتماً: يا ساتر يا رب، يا ساتر يا رب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

نظر إلى منبهه، فوجدها السادسة، و بسرعة البرق، دخل الحمام ليجد المياة مقطوعة. جلب زجاجة مياة من التى يخزنها لاستعمالها فى المواقف المماثلة، منها توضأ و غسل أسنانه، ثم صلى الصبح و ارتدى ملابسه.

و هو يَحبُك ملابسه باللمسات الأخيرة، انفك فجأة الزر فى وسط قميصه، و تدحرج جرياً ليستقر تحت الدولاب. تضجر كثيراً و قال لنفسه متأففاً: دة إيه اليوم اللى باين من أوله دة!

أخذ يقارن هل الوقت الذى سيخيط فيه الزر أقل أم اكثر من الوقت الذى سيختار فيه قميصاً آخر و يكويه. ارتمى على الأرض ممسكاً بعصا مكنسة محاولاً دفع الزر فى اتجاهه و لكنه فشل، ففتح دولابه و اختارت عيناه قميصاً آخر بألوان مشابهة فجذبه من شماعته بطريقة عصبية ثم كواه و ارتداه، و انطلق مُغلقاً باب الشقة ورائه متجهاً إلى سيارته.

أمام باب العمارة، تحسس جيبه لإخراج سلسلة مفاتيحه و لكنه لم يجدها!
لجأ إلى حله الدائم، جارته التى تسكن الشقة المقابلة لشقته والتى تحتفظ بنسخة من مفتاح البيت كأمانة دائمة. طرق بابها بلطف لأنه متأكد أنها ما زالت نائمة، و بالطبع لم يجد إجابة، أعاد الطرق على الباب بطرقة أشد قليلاٌ ثم أشد إلى ان فتحت له.

- إيه يا ابنى فيه ايه خير، سرعتنى
- انا بجد آسف جداً يا حاجة، انا عارف انى صحيتك، بس أصلى نسيت مفتاحى جوة و انا مستعجل جداً، ممكن تدينى النسخة اللى عندك؟
- حاضر، قالتها بامتعاض و صوت مكتوم، يا ابنى انت تقريباً بتعمل حركة المفتاح دى كل أسبوعين، طب افرض انا مش موجودة لأى ظرف.
أخذت تنصحه انه يجب عليه ان يركز أكثر فى حياته، خطف المفتاح من يدها و أجابها على عجلة إن شاء الله إن شاء الله، إدعيلى انتى بس.

ركب سيارته و بعد سيره بها بمسافة قصيرة، توقفت.
نزل ليرى ما حل بها، و لكنه لم يستطع أن يعرف السبب، بالإضافة إلى أن ليس لديه وقت لمحاولة تصليحها. أخذ يبحث عن اى سائر ليساعده فى دفعها، لكنه لم يجد أى شخص. أخذ يدفعها وحده بصعوبة حتى ركنها جانباً فى مكان آمن.
استعجب هل الخروج إلى الشارع مبكراً يعنى خلو الشارع من المارة و مرور أعداد بسيطة من السيارات هكذا، و لماذا اليوم بالذات و كأن كل قوى الطبيعة اتحدت ضده. حمد الله أنه نزل من البيت أكثر من ساعة مبكراً بنية الوصول قبل مواعيد العمل الرسمية، و لكن بما حدث له، سيصل فى الميعاد بالظبط. أخذ يدعو ألا يحدث له أى شئ يعطله ثانيةً.

لوّح لأول تاكسى، و ارتمى على المقعد الخلفى معلناً له مكان اتجاههم
- و النبى بسرعة يا أسطى أحسن مستعجل
- حاضر يا أستاذ، ما تقلقش، احمد ربنا ان الشوارع فاضية، و بعدين معلش لا مؤاخذة السواقة بسرعة عمرها ما توصلك بسرعة، دى الحوادث اللى بنشوفها و الناس اللى بتموت كل يوم و هية ملهاش ذنب دى، تخلى الواحد يفكر ألف مرة قبل ما يزود سرعته عن 50. ما تزعلش منى اوعى تاخد كلامى بحساسية ولا حاجة، انا أد والدك برضك و لازم أنصحك، وانا عارف شباب اليومين دولة دايماً مستعجل فى كل حاجة، خلاص ما بقاش فى صبر.
- انتو الخير و البركة برضه، اكيد انت عندك حق.

لم يكن يستمع إلى ما يقوله السائق من الأساس، باله كان منشغل بشئ آخر، كان يخطط أنه فور وصوله سيذهب لمكتب مديره ليريه التزامه و يعتذر له طالباً منه أن ينسى كل ما مضى فى موضوع التأخير، و أن يفتح صفحة جديدة له.

- الناصية الجاية يا أسطى لو سمحت
مد يده للسائق بعشرة جنيهات و لكنه رفضهم
- المشوار دة مش أقل من 15 جنيه يا أستاذ
- ليه يعنى، دة احنا ما أخدناش تلت ساعة، و بعدين الطريق ما كانش زحمة. تذّكر أن لا وقت لديه للمناقشات، 15 15 أمرى لله، لم يجد فى محفظته غير ورقة بخمسين جنيه
- اتفضل و ادينى الباقى
- انا مش معاية فكة
- ولا انا، و ما عنديش وقت اضيعه أكتر من كدة، فهتاخد ال10 جنيه و انت ساكت!

لم يترك له فرصة للرد، رماها له على المقعد، و جرى هارباً و اندفع داخل المبنى، و على الباب استوقفه حارس الأمن
- إسم حضرتك؟
استغرب و سأله و هو يلهث:
- إسمى؟؟ انتو من إمتى بتاخدوا الأسامى؟
- احنا بنعمل كدة فى أيام الأجازات بس
اتسعت عيناه، و سأله بصوت مبحوح: أجازات؟! ليه هوة انهاردة إيه؟
- انهاردة عيد العمال حضرتك.

 

eXTReMe Tracker