Saturday, December 27, 2008

مواقف من الوحدة


بعد يوم عمل طويل و شاق، ترتمى على الأريكة و تتمنى وجود من تستطيع أن تطلب منه كوب شاى دافئ.

فى ليلة شتاء باردة، تتمنى وجود من يلحظ ارتعاشك و يدثرك بغطاء آخر و يلفه حول جسدك من كل الاتجاهات.

عندما تتجبس رجلك و يُلزم عليك عدم ترك فراشك، و تود ان تغلق التلفاز ولكن الريموت بعيد عنك.

مع تناولك وجبة طعام أعددتها انت، تتمنى وجود من تسأله هل الملح خفيف أم أنها تهيؤات.

بعد الانتهاء من حمامك، تكتشف انه لا يوجد منشفة، تتمنى وجود من تناديه ليجلب لك منشفتك.

عندم يهاجمك سعال شديد، تتمنى وجود من يجلب لك كوب ماء أو يضربك على ظهرك.

و انت بكامل اناقتك لاجتماع عمل سريع، ينفك فجأة زر قميصك، تتمنى من يخيطه لك على الواقف.

انت فى انتظار مكالمة مهمة و لكن يصادف أن يرن الهاتف و يدك لا تستطيع الرد، تود من يرد نيابةً عنك.

عندما تشترى فستان جديد، تريدين من يساعدك فى اختيار الإيشارب ذو اللون الملائم.

فى العيادة و اثناء انتظار دورك للدخول للطبيب، تتمنى وجود من يصطحبك اليها.

كابوس فى عز الليل يوقظك من نومك بانتفاضة أو رعشة، تتمنى وجود من تحكى له تفاصيل الكابوس و تدفن رأسك فى حضنه.

عندما يغلبك النوم فى اثناء القراءة، تتمنى من يأخذ نظارتك و يضعك فى الفراش.

عندما تنقطع الكهرباء، تريد من يشاركك الصمت الذى حل بالمكان، و يهون عليك خوفك من الظلام.

فى ليلة عيد ميلادك و فى الساعة الثانية عشر ليلاً، تتمنى وجود من يقول لك كل سنة وانت طيب وجهاً لوجه بدلاً من الرسائل التى تستقبلها على هاتفك.

عندما تنظر لفنجان القهوة على الطاولة امامك، تتمنى وجود من يشاركك كلمات بسيطة حتى تبرد القهوة و تستطيع شربها.

و عندما ينتهى منك الكلام، تتمنى وجود من يتفهم صمتك.

Sunday, November 30, 2008

خوفاً من انفلونزا الطيور


فى أثناء شرائه لإحتياجاته من البقالة، يشير للبائع أنه يريد البيض المغلف فى علبة بلاستيكية و ليس الكرتون، يعرف ان سعره ضعف الثمن.

فى مطبخه، ينحنى ليجلب بعضاً من مسحوق الغسيل المتروك على الأرض بجانب الغسالة.
فى كوب صغير، يخلط المسحوق بالماء لترتفع الفقاقيع.
يفتح علبة البيض و يضعها فى الحوض، و يفتح المياه عليها لتغمرها.
يفتح الدرج الأخير من دولاب الطبخ ليجلب اللوفة المخصصة لغسل البيض.
يرتدى قفازه المطاطى و يغمس اللوفة فى المسحوق، يمسك أول بيضة، وبرفق شديد يمسحها باللوفة يميناً و يساراً ثم يقلبها لمسح جوانبها الأخرى، يضعها فى علبة أخرى فارغة يحتفظ بها لهذا الغرض. يكرر تلك العملية مع الخمس بيضات الباقيات.
يدعك جيداً العلبة الفارغة، مع التأكد من تغلغل المياه فى جميع تموجاتها و أركانها.

يشطف البيض واحدة واحدة تحت المياة الجارية مع دعكها بتروٍ.
يخلع قفازه و يجلب المنشفة المخصصة لتجفيف البيض من درجها، ثم يفتح الثلاجة ليُخرج لوحة البيض المُفرّغة. يحتوى كل بيضة بالفوطة، ثم يضعها فى اللوحة بمنتهى الحذر. بعدما ينتهى، يُرجع اللوح للثلاجة و يُغلق بابها بإحكام.

يرمى ما تبقى من المسحوق فى الحوض، و يغسل القفاز و اللوفة و المنشفة جيداً و يتركهم ليجفوا حتى يُعيدَهم مكانهم. يرمى العلبة القديمة، و يجفف العلبة المغسولة ليستعملها فى المرة القادمة.

فى الصباح التالى، سلق بيضتين، أحس أن الطعم متغير، و ساوره القلق ان البيض ليس بطازج. تخيل ان معدته تحتوى الآن على قطمة غير طازجة فأحس بالاشمئزاز. فتح الثلاجة و جمّع البيض فى كيس و قذفه فى سلة القمامة.

Wednesday, October 29, 2008

فيات 127


توقفت اليوم سيارتى للمرة الألف، أصبحت تخذلنى كل الأوقات، اتصلت بالميكانيكى و جاءنى بعد ساعة، فتحها و انزلق تحتها ثم نظر لى نظرة استرجاء: لازم تكلم حد يجى يقطرها لحد الورشة.
أقف عند الميكانيكى و انظر بشفقة إليه؛ إن لم يكن طيب الأصل، ما كان مد أى يد عون لى.
- يا أستاذ حرام عليك، والله ما بقى ينفع خلاص، بجد هى كدة جابت آخرها
- و العمل؟
- حضرتك لسة بتسأل؟ ما انا كل مرة اقولك بيعها، لكن دلوقت انا محتاج أقولك انها بقت لازم تتكهن!

لا أستطيع استيعاب ما يقوله، لا أستطيع ان أفرط فيها مهما ساءت حالتها.
منذ وعيت على الدنيا، و انا أرى لهفة أمى و هى تجرى على النافذة عندما تسمع نفير تلك السيارة؛ سيارة أبى. كان يُصدر صوت نفير بطريقة مميزة إشارةً لها بوصوله.
فتنظر من فتحة الشباك و ترقبه و هو يركن، ثم بعد خروجه من السيارة، يرفع رأسه و يبتسم لها ابتسامة خاصة.

و منذ خطواتى الأولى، عودتنى أمى ان أميز صوت السيارة و أنطلق لرؤيتها و رؤية أبى مهللاً كجميع الأطفال "بابا جه بابا جه"؛ فقط مكرراً ما أحفظتنى أمى إياه.
لم يحدث ابداً انها لم تسمعه، إلا مرات قليلة جداً عندما لم تستطع ترك ما بيدها و كان عليها تبرير عذرها مع دخول أبى الشقة و طبع قبلة على جبينه للمصالحة.
لن يصدقنى أحد أن أمى و أبى استمرا فى فعل ذلك حتى آخر لحظات حياتهم؛ كنت شاباً طولاً و عرضاً فى الجامعة و أرى أمى تتجه نحو النافذة بإشارة من أبى، و كنت انا قد توقفت عن فعل ذلك منذ بدأت مراهقتى و تمردى و محاولاتى إثبات أنى لم أعد طفلاً.

سألتها يوماً:
- انتى إزاى ما زهقتيش؟
- احنا اتفقنا من عشرين سنة ان دى من الحاجات الرومانسية اللى لازم نحافظ عليها و ما نخليش الجواز يقتلها
- يعنى انتى بتعملى كدة وفاءاً للوعد بس مش أكتر؟
- لأ طبعاً، بعمل كدة عشان انا حبة كدة، لأنى كل ما باسمع الصوت و أقرّب من الشباك، بأحس انى لسة عروسة جديدة و انى قضيت يومى كله مستنية أبوك يرجع من شغله فى الحتة المقطوعة اللى احنا فيها ديه، آه .. اللى كانت زمان مقطوعة.

لم يوقفهما ابداً الشجار أو الخصام عن تلك العادة، كان الفرق أن الابتسامة يحل محلها نظرة حنين عنيدة.
و عندما مرض أبى و كنت أقود له السيارة، كنت أفعل كما اعتاد أن يفعل تماماً، و ظلت أمى ترقبنا حتى توفى أبى و لحقته أمى بوقت بسيط.
ظلت تلازمنى حركة لا إرادية بعدها لفترة؛ أنى ألتفت فجأة عندما أسمع صوت سيارة شبيه، حتى إن كنت انا من يقود.

أحببت أن تنتقل تلك العادة الجميلة لأسرتى و ان نرتبط بنفس السيارة و بنفس العلامة المميزة من نفيرها.
بعد زواجى بشهرين، اقترحت الفكرة على زوجتى، و فوجئت بإجابتها
- إيه شغل العيال دة .. هو احنا لسة مراهقين ؟

و بهذه الإجابة التى أفحمتنى، لم اخبرها عن قصة أمى و أبى، و لكن بقيت الفكرة فى عقلى حتى وَعىَ طفلى، علّمته و عوّدته، و لم تبد هى اعتراض حينذاك.

- طيب لاصمهالى دلوقتى و انا هافكر فى الموضوع دة، بس ما عندكش زبون عنده نفس الموديل و اللون و عايز يبيع عربيته؟

Tuesday, September 23, 2008

تانجو


نقف بمواجهة بعضنا البعض و نفرد ذراعينا عن آخرهما، أنت من ناحية و أنا من الناحية الأخرى. نتقدم بخطوات ثابتة لنتقابل فى منتصف المسافة، نضم أطرافها، فتلمس أناملى أناملك.

نرجع للوراء لنقطة وقوفنا الأولى، مشدودة هى و كأنها رباط المحبة بيننا. تُثبّت عينك تجاه عينى و نكرر التقدم و الرجوع كأننا نرقص تانجو، نطويها، فتلمس أصابعى أصابعك.

تصبح الملاءة قطعة صغيرة مربعة، نضعها على الرف و نُربت عليها و كأنها طفلتنا، ويستكين كفى بالكامل فى كفك.

Tuesday, August 26, 2008

ساعة من الهواء الساخن


قبلما تُجلسنى الفتاة على جهاز مُنشِّف الشعر، أوصيها أن تغطى ظهر أذناى بقطن كثير، و تحبُك المنشفة على رقبتى. أدخلَت رأسى و تأكدت انها لا تتعرض لأى هواء خارجى ثم ضبطت الجهاز على ساعة.
- ساعة ليه، دة كتير أوى
- معلش يا آنسة، انتى مش عايزة شعرك يطلع كويس؟ لازم ينشف كويس.

علىّ أن أبقى حبيسة ساعة كاملة تحت هذا الجهاز اللعين، أكره العلماء الذين لم يخترعوا بعد آلة لتنشيف الشعر فى وقت أسرع من ذلك.
لم أحضر كتاب لأقرأ فيه، لا يتبقى لى إلا أن أشاهد من حولى حتى يسرقنى الوقت.

تجلس أمامى سيدة عجوز تكاد العروق تنفجر من وجهها وذراعيها، انتهت للتو من كي شعرها، تلفه برباط مطاطى أصفر (أستك الفلوس!)، و تضع عليه إيشارب مربع. حقيبتها، عقدها وقرطها من الزمن القديم جدا. تقوم من كرسيها بصعوبة و تنظر لنفسها فى المرآة ببهجة و تدفع الحساب و تنصرف.

فتاة تطلب قص شعرها الطويل إلى قصير جداً، أردت أن أهب صائحةً فيها "اعقلى يا مجنونة، فى غيرك بيفضلوا خمس سنين علشان يوصلوا لطول شعرك دة، حرام عليكى .. آه يا قهرة قلبى"، أنظر إلى الشعر و هو يتساقط من رأس الفتاة بالتصوير البطئ و أتخيل موسيقى هادئة تُعزَف في الخلفية، وأتأمل خصلات الشعر المتناثرة على الأرض و كأنها لوحة سريالية، من الممكن أن تُضاف لها بعض الخطوط الملونة وتصبح قطعة إبداعية.

بعض الفتيات العاملات في المكان شعرهن مصفف و بعضهن لا. هل تسمح لهن صاحبة العمل باستخدام المحل دون مقابل؟ و إن كان بمقابل، هل تحاسبهن بنفس سعر الزبائن أم لهن تخفيض؟ و هل تُدّون ذلك فى حسابات المحل؟

ألاحظ أن بعض السيدات يدسسن عشرة جنيهات بقشيشاً فى جيب الفتيات و ليس الخمس جنيهات المتعارف عليها.

من كثرة النداء عليهن، أحفظ أسمائهن: هدى، مها، شيماء، نجوى وهالة.
تُعجبنى نجوى، تعامل الزبائن بحميمية شديدة وتُشعرهن بأهميتهن، تُمطر كل سيدة بكلمات إعجاب وكأنها أجمل نساء الارض.
هدى عصبية جداً، أراها مستفزة أيضاً، لو كنت مديرتها لطردتها من المكان.
هالة المسؤلة عن غسيل الشعر، لا أشعر أنها تتعامل مع رأس إنسانة، أراها عنيفة نوعاً ما. بعض السيدات يجلبن الشامبو والبلسم الخاص بهن. الكمية التى تستعملها هالة منهن اكثر بكثير من الكمية التى تستعملها من شامبو و بلسم المحل.
شيماء الأكثر شعبية، عندما تدخل أى سيدة، تسألها مَن على الباب "تحبي حد معين معاكي؟" معظم الاجابات تكون شيماء، ليست بالوجه المبتسم لكنها سريعة و تعرف جيداً ما تفعله.
مها مهمتها طلاء الأظافر، تنقع اليد أو القدم فى وعاء بلاستيكى لخمسة دقائق ثم تفرد كريم خاص وتدعك من الخارج للداخل فى صورة دوائر ثم تبدأ عملية الطلاء. أركز معها بشدة فى الطلاء الفرنسى، لا أفلح أبداً فى وضعه لنفسى، ربما أتعلم منها.

مع اعتياد المجئ، ترتاح كل سيدة مع فتاة معينة، بعضهن يتصادقن و يتكلمن في أسرار البيت و الجيران و يمتد الكلام لكثير من النميمة و أحيانا الغيبة.

أنظر إلى أصابعهن جميعاً لأبحث عن خاتم الزواج، لأحدد من منهن مخطوبة أو متزوجة أو آنسة. لا هدف لما يدور فى عقلى إلا قتل الوقت.

أنظر إلى الساعة، مرت نصف ساعة فقط، لا أستطيع احتمال الحرارة، أشعر بالصداع
- عندكو أسبرين؟
- لأ
أصمت و أقول فى سرى "آه و تجيبوا أسبرين ليه، ما انتو مش فارقة معاكو، هوة انتو اللى قاعدين متذنبين كدة و لا الغلابة اللى زيى"، يقطع حبل أفكارى و إستنكارى حوار بجانبى

- هو بكرة كام … محرم؟
- و الله مش عارفة يا مدام، هو انا فاكرة انهاردة ايه من أيام الأسبوع أصلا…
- عندك حق، بس الواحد عايز ماينساش عاشوراء
- آاااااه، همك على طبق العاشوراء، حضرتك اللي بتعمليها ولا بتجبيها جاهزة؟
- مش بسأل علشان كدة خالص، انا بسأل عشان الصيام
- صيام؟!! ليه؟!؟ و هو عاشوراء بيتصام ليه بقة إن شاء الله؟؟!!
- سُنة عن الرسول عليه الصلاة و السلام، علشان دة اليوم اللي موسى انشق له البحر و اتعمل طريق
- "فاغرة فمها": هة؟ العلم نور برضك، ما دام سُنة يبقى نصومه طبعاً.

تدخل بنت تسأل عن أسعار و تفاصيل عرض ليلة الزفاف، ما المدة الكافية للحجز قبل الفرح، هل العرض متضمن لف الطرحة أم تصفيف الشعر و المكياج فقط.

أحب ألوان مناشفهم؛ مخططة لبنى و أزرق، مرصوصة فى الدولاب بنظام شديد على حسب أحجامهم.

يرن الجرس للتنبيه بانتهاء الوقت، و يتوقف الجهاز عن العمل أخيراً، أخلع رأسي منه و أتنفس الصعداء.

Monday, July 28, 2008

نملومانيا


"يتميز النمل بالحياة في جماعة والتعاون في العمل بنظام شديد. يدّخر النمل الطعام في الصيف ويخزنه حتى يستطيع مواجهة برد الشتاء الذي يمنع أفراده عن الخروج من أعشاشهم. النمل أكثر المخلوقات نظاماُ و هو في حالة عمل دائم ومستمر، نجاحه قد تعدى نجاح البشر..." هذا ما تعلمناه جميعاً فى المدرسة.

فى تلك المرحلة من الطفولة، كنت اتربع على الأرض و بحذر شديد أراقب خط النمل لساعات طويلة و اتعجب و استنكر بشدة لماذا يتخذ حوائط منزلنا مقراً لبيوته.
و بشقاوة الأطفال، أسكب قطيرات من الماء على مجموعة النمل، ليعجبنى الفزع الشديد الذى يحل به.

حكاياتى مع النمل ممتدة مع تاريخ حياتى؛ ابتدائاً من علبة شيكولاتة بالبندق اهدتها لى جدتى و انا فى سن الخمس سنوات، وضعتها فى دولابى و فتحتها بعد أسبوع لأجد الشيكولاتة مليئة بالحفر، أكل النمل البندق و ترك لى الشيكولاتة خاوية.

استيقظت يوماً على صراخ أمى، جاءت لتوقظنى فوجدت بقع حمراء و لدغات عريضة لا حصر لها على وجهى و رقبتى. اعتدت أن أخبئ أقراص النعناع اللذيذة تحت وسادتى، تلك الليلة أخذت واحدةً و وقعت فى النوم قبلما أعيده تحت الوسادة، فتسلى النمل عليه وعلىّ حتى الصباح. ظل جلدى ملتهباً لساعات و أمى تبرده لى بالماء و مكعبات الثلج.
و فى ليلة أخرى، قرص النمل أخى فى عينه، فتورمت و ظلت منتفخة تحكه بشدة لفترة كبيرة من الوقت.

لن أنسى صرخة قريبَتنا بعدما قدمت لها أمى صينية الشاى، لأنها وجدت النمل يتنزه فى السكّرية، التى نحتفظ بها فى نيش السفرة. و كان موقفاً محرجاً إلا أن أمى تفادته بالشكوى و استرسال حيرتها فى عدم وجود حل لتعدى ذلك المخلوق على كل ممتلكاتها.

و مع توالى الأيام، كنت أرى نظرات الأسى و الغيظ فى عيون أمى فى كثير من المواقف بعدما يُنتَهك طبق من الطعام الذى تعبت فى تحضيره، أو بعدما تُفاجأ بنقصان في أكياس السكر المحفوظة فى دولاب المطبخ. و كنت دائماً و انا أغلى من الداخل أواسيها و أساعدها فى تنظيف الأرفف و تغيير ورق الجرائد و غسيل الأطباق و الأكواب و تجفيفها و رصها من جديد.

و لذلك و بعد سلسلة أحداث مأساوية فى نظرى، أعلنت الحرب علي ذلك المخلوق المغتصب السارق، و بدأت فى تجهيز الوسائل و الأسلحة الرادعة التى تؤدبه و تبيده من بيتِنا.

كنت أضع صفار البيض أو حبات من العنب البناتى فى ركن و أمُر كل ربع ساعة لأرى الأعداد تتزايد وأصبر و أنتظر لتتزايد أكثر و أكثر و أستلقى على الأرض أو أقف على كرسى لأراقبهم و لأحدد مكان جحرهم، ثم أمسك المبيد الحشرى و أرش بعنف شديد من نقطة البداية إلى نقطة النهاية. اعتبرت المبيد كأنه سيف حاد فى يدى أقطع به رقاب كل تلك الكائنات الصغيرة. و بعدما أنتهى، يبقى خط من النقط السوداء، اتأمل جثثهم المتناثرة و كأنهم أفراد جيش حلت بهم هزيمة مباغتة و تعترينى نشوة الانتصار.

نهرتنى أمى عدة مرات من كثرة استعمالى للمبيد الحشرى و حذرتنى انى سأُصاب بالسرطان.
لم تفلح المناديل الورقية المتوفرة فى البيت لأنها مجرد أن ابتلت بالماء ذابت، فأشتريت كمية كبيرة جداً من أكياس القطن، و قسمتها لقطع متوسطة و كبيرة الحجم لتكون جاهزة للإستعمال الفورى. جهزت أيضاً وعاءاً فيه خليط من الماء و الصابون.
و فى وقت المعركة، أغمز قطعة القطن فى الوعاء و أهوى بيدى على نقطة البداية و أمسح الخط مسحاً شاملاً، ثم أرمى القطنة فى وعاء آخر فيه ماء فقط لأرى الجثث الصغيرة تطفو على وجه الماء ثم ارميها فى الحوض و استمتع برؤيتها تُسحَب فى البالوعة و تختفى لحال سبيلها.

استشرت العطارين و جربت جميع وسائل التخلص من النمل؛ بدايةً من مسحوق النمل، و مروراً برش الخل فى الأركان و رسم خطوط النمل بالطباشير و حقن ثقوب الحوائط و الأرض بالجاز وتأجير شركات إبادة الحشرات و أخيراً و ليس آخراً إختراع العجينة التى تباع فى الصيدليات. و لكن هيهات، ما استطاع أى من تلك الأنواع وقف النمل عن الانتشار.

فى وقت الطفولة، كانت النملة مخلوق ضعيف بحق؛ نزول قطرة واحدة من الماء عليها معناه موتها فى أقل من الثانية، إنما الآن تجدها تحاول الهرب و هى منغمسة كاملة فى الماء ثم تخرج منه و كأن شيئاً لم يكن، فلم يعد الماء ولا أى وسيلة قتل من ما سبق مناسبة له، النمل أصبح سوبر باور.
إنه حتى يصل للمكسرات المحفوظة فى درج الثلاجة، حتى برودة الثلاجة لم تعد تعوقه!
كما أنه أصبح يتجمع على أنواع من الأكل لا تتوقع أن تجذبه مثل الجبنة الرومى و أكياس الخميرة وما يتبقى في فناجين القهوة!

اليوم أخذت أجازة من العمل، و انا صافية البال أعددت فى الصباح لفائف من الجلاش المحشو بالزعتر والأنشوجة واللحم المفروم و رصصتهم فى صينية فى ثلاثة أجزاء و حفظتها فى الفرن لأسويها قبل ميعاد رجوع أهلى للبيت بساعة. من كل مواقفنا السابقة، كان من المعروف أن الفرن مكان مُحصّن لا يقربه النمل، و لكنى فتحت الفرن لأجد الثلاثة أجزاء عبارة عن سواد حالك، أعداد غفيرة و تجمع لم أرى له مثيل؛ جيوش بمعنى الكلمة.

قذفت الصينية بكاملها فى الحوض و فتحت المياة على آخرها و صرخت صرخة واحدة و جلست على الأرض و انهرت فى بكاء متواصل.

Wednesday, June 18, 2008

يا مستعجل عطّلك الله


اجتمع به مديره بالأمس و حذره للمرة الأخيرة أنه سيضطر ان يُنهى عمله بالشركة إن تأخر يوماً آخر. لم يأت ذلك القرار الحاسم فجأة، و لكن سبق لمديره أن نبهه عدة مرات بأنه يجب ان يجد حلاً لموضوع وصوله للعمل متأخرأ، و لم تتحسن أحواله كثيراً، ثم تغير التنبيه إلى توبيخ شديد و متكرر لنفس الموضوع و كان ينضبط لأيام قليلة ثم يرجع إلى ما كان عليه. و مع كثرة شكاوى الزملاء من أن أشغالهم تتعطل بسبب تأخره الدائم، لم يجد المدير إلا قرار الفصل النهائى.

معتاد هو على الاستيقاظ على مراحل، بداية من مرحلة التقلب فى السرير و فتح العينين نصف فتحة و التثاؤب و غلق رنين المنبه الأول ثم الثانى، و منتهياً بمرحلة القيام مفزوعاً لفوات الوقت. ذلك بالإضافة الى ان لديه طقوساً مكررةً يؤديها كل صباح؛ حيث أنه من الرجال الذين يعتنون بأنفسهم ويولون اهتماماً كبيراً بمظهرهم.

حلاقة ذقنه عملية مهمة يعطيها وقتها الكافي؛ يقف أمام المرآة يتأمل ذقنه يميناً و يساراً، يفرد كريم الحلاقة على وجهه كأنه يخلط و يفرد ألوان زيت على باليتة رسم، ثم يبدأ بإزالة الكريم بإتقان، ثم يغسلها بالماء البارد و ليس الساخن لأن الماء البارد يفتح مسام البشرة؛ قرأ تلك المعلومة فى مقالة عن الاهتمام بالوجه. يكرر عملية الحلاقة مرتين حتى تصبح ذقنه ناعمة تماماً.

يكوي قميصه و سرواله بنفسه حيث لا يحبذ فكرة ارسال ملابسه للمكوجى؛ يخاف ان تضيع أى قطعة تخصه، أو تُحرق بدون قصد كما تكون الحجة الدائمة.
معظم قمصانه إما مربعات أو مخططة، يختار لون السروال مثل لون الخط في القميص أو لون أحد خطوط المربعات.
و بعد أن يضع مزيل العرق و كريم الشعر، ينثر من عطره على رسغيه و على جانبي رقبته و على ملابسه.

يختار الجورب و الحذاء مثل لون السروال، أسود أو بني أو بيج أو رمادي أو كحلي، ثم يضع نظارته الشمسية الأنيقة ذات الماركة المشهورة على عينيه و ينطلق الى العمل.

اليوم و بعد تحذير مديره، اخذ يفكر هل يؤدى طقوسه تلك في المساء حتى يوفر وقتها في الصباح؛ أم يؤجلها للصباح كما هو معتاد و لكن مع الاستيقاظ ساعتين مبكراً.

قرر ان ينجزها ليلاً، و لكن انتهى الامر به أن ينام الساعة الثالثة صباحاً. أخذ يحدق في حوائط غرفته و يتصور انه سيصل متأخرا كالعادة و انه سيُفصل فعلاً و معنى ذلك انه لن يرى هند التى اعتاد على رؤيتها الصامتة، كل يوم يقرر أنه سيكلمها عن اعجابه بها و انه يريد الارتباط بها، و لكن يصيبه الارتباك كلما أقدم على ذلك، و يؤجل تلك الخطوة لليوم التالى .. لم يعد هناك يوم تالى، و ما دام لم يستطع أن يكلمها و هم فى مكاتب متجاورة و يفصل بينهما حائط واحد، فبعد ابتعاده، من المؤكد أنه لن يراها ثانيةً.
معنى فصله أيضاً أنه لن يتناول فطوره من البيض الأومليت و الفول الاسكندرانى و الجبنة الرومى و كوب الشاى المحلى بأربع ملاعق سكر. يجهزه له عم حسين كل صباح و يضعه على مكتبه مع الدعاء له بالزوجة و الذرية الصالحة.

شعر باختناق من حرارة الجو، فقام و جلب المروحة، ثم ما لبث أن سقط في النوم، و لكن كانت حقاً ليلة مليئة بالكوابيس.
رأى نفسه جالساً على أرض مكتبه محاطاً بالكراتين المملؤة بحاجاته الشخصية و دفاتره، رأى وجوهاً كثيرة لا يعرفها تمر على مكتبه و ترمقه بنظرات خبيثة وغير مفهومة و وجوهاً أخرى تغلب عليها ابتسامات صفراء عريضة. سمع ضحكات عالية من الفتيات حديثات التخرج اللاتى التحقن بالعمل الشهر الماضى، و فوجئ بأطفال يخرجون له لسانهم و يحاولون إغاظته! وجد نفسه يبحث عن هند و لم يجدها و يبحث عن مديره ليتوسل إليه ليعطيه آخر فرصة و لم يجده أيضاً. اختلطت أمامه النظرات بالإبتسامات بالضحكات باللمزات بالوجوه المتداخلة، و هب من فراشه مذعوراً متمتماً: يا ساتر يا رب، يا ساتر يا رب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

نظر إلى منبهه، فوجدها السادسة، و بسرعة البرق، دخل الحمام ليجد المياة مقطوعة. جلب زجاجة مياة من التى يخزنها لاستعمالها فى المواقف المماثلة، منها توضأ و غسل أسنانه، ثم صلى الصبح و ارتدى ملابسه.

و هو يَحبُك ملابسه باللمسات الأخيرة، انفك فجأة الزر فى وسط قميصه، و تدحرج جرياً ليستقر تحت الدولاب. تضجر كثيراً و قال لنفسه متأففاً: دة إيه اليوم اللى باين من أوله دة!

أخذ يقارن هل الوقت الذى سيخيط فيه الزر أقل أم اكثر من الوقت الذى سيختار فيه قميصاً آخر و يكويه. ارتمى على الأرض ممسكاً بعصا مكنسة محاولاً دفع الزر فى اتجاهه و لكنه فشل، ففتح دولابه و اختارت عيناه قميصاً آخر بألوان مشابهة فجذبه من شماعته بطريقة عصبية ثم كواه و ارتداه، و انطلق مُغلقاً باب الشقة ورائه متجهاً إلى سيارته.

أمام باب العمارة، تحسس جيبه لإخراج سلسلة مفاتيحه و لكنه لم يجدها!
لجأ إلى حله الدائم، جارته التى تسكن الشقة المقابلة لشقته والتى تحتفظ بنسخة من مفتاح البيت كأمانة دائمة. طرق بابها بلطف لأنه متأكد أنها ما زالت نائمة، و بالطبع لم يجد إجابة، أعاد الطرق على الباب بطرقة أشد قليلاٌ ثم أشد إلى ان فتحت له.

- إيه يا ابنى فيه ايه خير، سرعتنى
- انا بجد آسف جداً يا حاجة، انا عارف انى صحيتك، بس أصلى نسيت مفتاحى جوة و انا مستعجل جداً، ممكن تدينى النسخة اللى عندك؟
- حاضر، قالتها بامتعاض و صوت مكتوم، يا ابنى انت تقريباً بتعمل حركة المفتاح دى كل أسبوعين، طب افرض انا مش موجودة لأى ظرف.
أخذت تنصحه انه يجب عليه ان يركز أكثر فى حياته، خطف المفتاح من يدها و أجابها على عجلة إن شاء الله إن شاء الله، إدعيلى انتى بس.

ركب سيارته و بعد سيره بها بمسافة قصيرة، توقفت.
نزل ليرى ما حل بها، و لكنه لم يستطع أن يعرف السبب، بالإضافة إلى أن ليس لديه وقت لمحاولة تصليحها. أخذ يبحث عن اى سائر ليساعده فى دفعها، لكنه لم يجد أى شخص. أخذ يدفعها وحده بصعوبة حتى ركنها جانباً فى مكان آمن.
استعجب هل الخروج إلى الشارع مبكراً يعنى خلو الشارع من المارة و مرور أعداد بسيطة من السيارات هكذا، و لماذا اليوم بالذات و كأن كل قوى الطبيعة اتحدت ضده. حمد الله أنه نزل من البيت أكثر من ساعة مبكراً بنية الوصول قبل مواعيد العمل الرسمية، و لكن بما حدث له، سيصل فى الميعاد بالظبط. أخذ يدعو ألا يحدث له أى شئ يعطله ثانيةً.

لوّح لأول تاكسى، و ارتمى على المقعد الخلفى معلناً له مكان اتجاههم
- و النبى بسرعة يا أسطى أحسن مستعجل
- حاضر يا أستاذ، ما تقلقش، احمد ربنا ان الشوارع فاضية، و بعدين معلش لا مؤاخذة السواقة بسرعة عمرها ما توصلك بسرعة، دى الحوادث اللى بنشوفها و الناس اللى بتموت كل يوم و هية ملهاش ذنب دى، تخلى الواحد يفكر ألف مرة قبل ما يزود سرعته عن 50. ما تزعلش منى اوعى تاخد كلامى بحساسية ولا حاجة، انا أد والدك برضك و لازم أنصحك، وانا عارف شباب اليومين دولة دايماً مستعجل فى كل حاجة، خلاص ما بقاش فى صبر.
- انتو الخير و البركة برضه، اكيد انت عندك حق.

لم يكن يستمع إلى ما يقوله السائق من الأساس، باله كان منشغل بشئ آخر، كان يخطط أنه فور وصوله سيذهب لمكتب مديره ليريه التزامه و يعتذر له طالباً منه أن ينسى كل ما مضى فى موضوع التأخير، و أن يفتح صفحة جديدة له.

- الناصية الجاية يا أسطى لو سمحت
مد يده للسائق بعشرة جنيهات و لكنه رفضهم
- المشوار دة مش أقل من 15 جنيه يا أستاذ
- ليه يعنى، دة احنا ما أخدناش تلت ساعة، و بعدين الطريق ما كانش زحمة. تذّكر أن لا وقت لديه للمناقشات، 15 15 أمرى لله، لم يجد فى محفظته غير ورقة بخمسين جنيه
- اتفضل و ادينى الباقى
- انا مش معاية فكة
- ولا انا، و ما عنديش وقت اضيعه أكتر من كدة، فهتاخد ال10 جنيه و انت ساكت!

لم يترك له فرصة للرد، رماها له على المقعد، و جرى هارباً و اندفع داخل المبنى، و على الباب استوقفه حارس الأمن
- إسم حضرتك؟
استغرب و سأله و هو يلهث:
- إسمى؟؟ انتو من إمتى بتاخدوا الأسامى؟
- احنا بنعمل كدة فى أيام الأجازات بس
اتسعت عيناه، و سأله بصوت مبحوح: أجازات؟! ليه هوة انهاردة إيه؟
- انهاردة عيد العمال حضرتك.

Saturday, May 17, 2008

المسألة .. حياة أم موت

صراخ هنا .. و صراخ هناك
صراخ يُعلن موت جسد و انتهاء حياة
و صراخ يُعلن مولد جسد و بداية حياة

بكاء هنا .. و بكاء هناك
نفس القطرات و لكن بطعم مختلف
بكاء ينطق بالصدمة و الفقدان
و بكاء ينطق بالفرحة و السعادة

عندما يحتضر مريضى ..
أرغب فى قطع أى جزء من جسمى لأحافظ على أعضائه حية
أُشمّر عن ساعدىّ لأسحب كل دمى لأملأ عروقه
أكون على أتم استعداد لأهدى نبضاتى لقلبه المتألم
و عندما يموت، أجرى بعيداً و أبكى
ألوم نفسى أنى قصرت فى علاجه أو مساعدته
أعاتبنى أنى لم أضع إبتسامة على وجهه قبل وفاته
أحزن و كأنه صديق، و اتألم لمن سيعذبون بفراقه
و يشاركنى دموعى الخواء و السكون

عندما أُولّد مريضتى ..
يملأ صوتى المكان بالكلمات و الأصوات المشجعة
أٍتمتم لها انى أكاد أسمع صوت وليدها و أنه فى الطريق
أجد روحى مليئة بألوان الطيف و النجوم اللامعة و الضحكات العالية
و عندما تظهر رأس الطفل، أصرخ من الفرح
أُجدد أحاسيسى بلمس بشرته الحريرية الملساء
أتخدر من شم أصابع قدميه و اتأمل حجمهما اللذى فى حجم عقلة أصبعى
أنظر إلى عينيه المغلقتين، و أخمن لونهما حتى قبل أن يفتحهما
أفكر له فى إسم يعجبنى انا، و أتبعه بالتفكير فى اسم التدليل
و أظل أشارك أهله فى لعبة إجابة السؤال الأبدى؛ هل يشبه الأم أم الأب

عندما أسمع العد التنازلى للأنفاس، أشعر بقوتى تذبل و تتلاشى
و عندما أسمع العد التصاعدى للأنفاس، أشعر و كأن حياتى بدأت للتو

هكذا يكون يومى دائماً؛ خليط متكرر من الصراخ و البكاء مع اختلاف المعانى و الأسباب، و بالرغم من أن هذه هى حياتى اليومية، لا تزال أذناى غير قادرة على تمييز هل تلك الأصوات هى من هنا أم من هناك.


Wednesday, April 30, 2008

شقة رقم 33

ظللنا نتمتع بحرية تحرك كاملة منذ انتقالنا لمسكننا الحالى، لخلو الشقة أسفلنا من السكان، فلم نكن أبداّ نفكر بأن علينا تجنب تحريك أى كرسى أو تجنب سقوط أى شئ على الأرض فى الساعات المتأخرة من الليل، أو أن علينا أن نوقف الأطفال من جريهم و تخبيطهم المعتاد، أو أن علينا مراعاة ألا يكون صوت التلفاز مرتفع.

علٍمنا من رئيس مجلس إدارة العمارة أثناء دفعنا للاشتراك الشهرى أن ساكنة جديدة ستنتقل إلى تلك الشقة أول الشهر، و أنها سيدة مسنة و أن علينا أن نرحب بها و كلام شبيه. أيقننا حينها أنه يجب علينا مراعاة الهدوء فى أسلوب حياتنا فى الشقة.

رجعت من العمل يوماُ لأجد رسالة من الساكنة الجديدة مُثبتة فى بابى، مفادها أنها ترجو منى عدم نشر الغسيل و هو مبتل و أن علّى عصره جيداً و تركت رقم هاتفها. استعجبت بشدة لأن غسيلى على الحبل منذ يومين و كسلى فقط هو ما منع تجميعه. نزلت لأشرح لها الموقف و أدافع عن نفسى. رننت الجرس مرتين و لم تفتح لى بالرغم من سماعى لصوت تلفازها. صعدت مرة أخرى و حادثتها تليفونياً و طلبت منها أن تفتح لى الباب لنتناقش و فعلَت. اعتذرت لى أنها لا تفتح الباب لمن لا تعرفه، و تعرّفنا ببساطة على بعضنا البعض لأول مرة.
حكت لى أنها انتقلت إلى تلك الشقة لأنها صغيرة و تكفيها وحدها بدلاً من شقتها الواسعة التى لم تعد بحاجة إليها بعد سفر ابنتها و وفاة زوجها.

سيدة فى السبعينات من عمرها، ذات جسم صغير و ملامح دقيقة، شعرها فضى لامع منسدل على كتفيها، وجهها أبيض يشوبه الحمرة، تشبه السيدات الأتراك نوعاً ما. تستطيع ان تستنج مستوى تعليمها من كثرة الكلمات الإنجليزية و الفرنسية فى حوارها، و التى تنطقها بسلاسة و تلقائية شديدة.
شرحت لها موقف الغسيل و بدأ الحوار ..

انا: حضرتك انا غسيلى على الحبل بقاله يومين أصلاُ فمستحيل أنه يكون نّقط على غسيلك انهاردة الضهر

هى: انا خرّجت البطانية الصبح علشان تتهوى، جيت أشيلها الساعة اتنين الضهر، لقيتها غرقانة، رفعت راسى لفوق فشفت غسيلك بينقط، حتى كانوا حبة على اليمين و بعد شوية زادوا و بقى فيه على الشمال كمان

انا فى ذهول تام و محتفظة بهدوئى: إذا كنت انا ببقى فى الشغل من تمانية الصبح و ما برجعش إلا خمسة، و الأولاد بيبقوا فى المدرسة برضه تقريباً فى نفس اليعاد.

هى: يبقى ما تأخذنيش، ممكن يكون جوزك

انا: ما هو جوزى برضه فى شغله طول اليوم، و بعدين ما تقلقيش هوة ملوش دعوة خالص بنشر الغسيل

و أخذ الحوار الكثير من الوقت الذى لم اتوقعه، و دخلنا فى مهاترات و توقعات و لم نتفاهم، فهى تتكلم كثيراُ و تسمع قليلاً؛ عنيدة الشخصية. اضطررت أن أنهى النقاش و أن أعٍدها أنى لن أفعل ذلك مجدداُ. خرجت من شقتها و كلى فضول أن أعرف أكثر عن حياة تلك السيدة.

كل صباح، تنثر خديداتها الصغيرة عل طرف شباك غرفة نومها، و كذلك تفرد بطانيتها المشجرة على منشر الغسيل لينالوا قسطهم من الشمس و التهوية.
يتدلى من شباك مطبخها فروع فواكه و خضراوات بلاستيكية الشكل، أما فى شرفتها، تجد تلك الأصارى البلاستيكية المُثبتة فى سور الشرفة، و التى تحتوى على زهور من كل الألوان و الأشكال، بالإضافة إلى زرع اللبلاب الملفوف حول السور.
أثناء نزولى لتوصيل أطفالى لأوتوبيس مدرستهم فى السادسة و النصف صباحاُ، أسمع ما تجود به إذاعة البرنامج العام من بيتها؛ نجاة، عبد الحليم، شادية، فريد، صباح، محمد فوزى أو القرآن الكريم أحياناُ، و تظل الاغانى تشدو حتى ميعاد نزولى أنا و زوجى إلى عملنا فى الثامنة صباحاً.

بدأت ألحظ أيضاُ الأشياء البسيطة فى حياتها، فمثلاُ لون منشر الغسيل برتقالى، و أتوقع أن هذا اللون تحديداً لم يأت صدفة و إنما هو من اختيارها الشخصى.

المشاية أمام باب شقتها، بالرغم من أنها تبدو عليها القدم، إنما تحتفظ بألوان زاهية تلفت إليها أى عين.
تتكون من ألوان عديدة و أشكال غير منتظمة، دوائر و نقط من الأصفر و الأحمر و الأخضر و الأزرق.
لا أمر يوماً من أمامها إلا و تتأملها عيناى ُمحاولة أن أستوعب معنى رسوماتها، و لكنى أفشل و أفكر أنى لو كنت أمتلكها، ما كنت لأتركها على الأرض، سأضعها فى برواز خشبى أسود و سأعلقها على الحائط كلوحة سريالية مُبهرة.

أمام بابها أيضاً تترك اللبن لقطة العمارة فى وعاء صغير لم أرى فى جماله مِثل؛ أبيض اللون بزخارف صينية منمنمة و مرسومة بدقة شديدة باللون الأزرق، من المؤكد أنها صنع يدوى.
و مثلما تمنيت المشاية، تمنيت أن أقتنى ذلك الوعاء، و استنكرت جداُ فكرة أنها ترميه هكذا على الأرض و للقطة، بل إنه يستحق أن يوضع فى دولاب الفضيات كتحفة فنية و يُسلّط عليه إنارة داخلية.

الورقة المثبتة على باب الشقة التى تُكتَب عليها البيانات الشهرية للكهرباء و الغاز، ملونة و مليئة برسومات عصافير و نجوم، حتى رقم الشقة عبارة عن قطعتين خشبيتين متطابقتين من الرقم ثلاثة.

بالرغم من أن كل تفاصيل حياتها تدل على الأرستقراطية، إلا أنه لا يخلو يوم من سماع صوتها العالى؛ إما مناداتها لبائع الجرائد أو بائع الفول، أو مشاجراتها مع البواب لأى سبب، أو صراخها للأطفال الذين يلعبون الكرة فى الجراج، أو شكواها المستمر للجيران من الحياة الصعبة أو الصحة ُالتى ذهبت.

لاحظت لخمسة أيام متتالية أن المشاية لم تعد أمام الباب و أنى لم أعد أسمع صوت الراديو صباحاً، فقلِقت. أطرقت بابها و لكن لم يفتح أحد، سألت من تسكن بجانبها فعلمت ان ابنتها رجعت من السفر و أخذتها لتعيش معها.

بالرغم من رجوع الأطفال للدبدبة و الجرى كما يشاءوا و فى أى وقت، و بالرغم من أننا لم نعد نكترث بأى إزعاج قد يصدر مننا فى ساعات الليل، إلا أننى شعرت بإحساس غريب من الشجن عندما رأيت فرع الفواكه المتدلى من شرفة المطبخ يكسوه التراب و بالرغم من أنى لست من النساء ذوات المشاعر المرهفة، لكننى فعلاُ افتقدت كل تلك الأشياء البسيطة التى عايشتها معها، و من يومها أصبحت إذاعة البرنامج العام تشدو كل صباح فى سيارتى.

Sunday, March 02, 2008

هديتك لا تزال فى حقيبتى

أستيقظ على صوت هاتفى، أُغلق رنينه و أجد رسالة تُُذكرنى بأن اليوم عيد ميلادك. تذكرت الآن فقط أن فى مثل هذا اليوم من العام الماضى أضفت مُنبه على الهاتف ليذكرنى كل عام بعيد ميلادك. لم أكن لأنسى اليوم بالطبع، و لكنى أحببت فكرة أن فى الأعوام القادمة سأجد دائماٌ ما يُذكرنى بأول عيد ميلاد لك معى.

أحب فكرة تصادف يوم عيد ميلادك مع اليوم الجمعة، ذلك معناه أننا سنقضى اليوم كله معاً.
أمنع نفسى من أن أكلمك أو أسمع صوتك، سأُُدخر كل اشتياقى إليك إلى موعدنا عصراً، أنظر إلى الساعة و أتمنى أن أُغير عقاربها بيدى ليجئ الميعاد سريعاً.

قبل أى شئ، أتصل بمطعمنا المفضل لحجز الغذاء، أحجز مكانين بإسمك.
أتناول قهوتى الصباحية و ذهنى مشغول بالمقارنة بين كل الأفكار التى خطرت لى لهديتك، كتاب جديد؟ أهديتك كتب كثيرة، محفظة جلد؟ تمتلك محفظة أنيقة جداً، عطر؟ أُحب أن أؤجله لما بعد زواجنا، قميص؟ أخاف أن أُخاطر فى مسألة المقاس و التبديل، ما أصعب هدايا الرجال!
أؤجل القرار حتى أفكر أكثر و أنا أجهز للنزول.

تلقائياُ، تمتد يدى فى دولابى إلى الرداء الذى تحبنى فيه، البلوزة البيضاء الحريرية ذات الأكمام الضيقة و الجونلة السوداء البليسيه، قلت لى آخر مرة رأيتنى به أنك تتمنى أن أرتديه طوال الوقت.
آه، وجدتها! كم أكره رابطة العنق التى ترتديها مع بدلتك الرمادية اللون، كئيبة و قديمة، غضبت منى عندما قلت لك هذا التعليق عنها، لكنى متأكدة أنك ستفرح عندما أفاجئك برابطة عنق بدلاً منها، سأقنعك بسهولة بأنها ستبدو عليك أجمل لأننى اخترتها لك.

أدخل المحل و أحاول تذكر درجتك الرمادية على قدر المستطاع و أحتار بشدة ماذا أختار، الإغراءات كثيرة، الرمادية العريضة أم الفضية الغامقة السادة أم الرصاصية اللامعة أم السوداء المقلمة بخطوط رمادية، أتخيل الأخيرة فوق قميص أسود فتروق لى جدا و أنتزعُها بلا تردد. بعد دفع قيمتها، أدسها فى حقيبتى و أنطلق إلى مكاننا سريعاُ.

أصل إلى المطعم و أنطق اسمك للوصول لمكاننا، أجلس و أنتظرك، و أتخيلك أمامى و اسألك ماذا تحب أن تاكل و أقترح لك و تقترح لى ..
- تحبى تعملى الأوردر دلوقتى ولا هتستنى اللى مع حضرتك
- هطلُبلنا، لو سمحت طبق مكرونة بالريحان و طبق ستيك مشوى بالمشروم (طبقك المفضل).

أداعبك: "هتفضل تاكل مشروم فى كل حاجة كدة؟ شوية شوية هتقولى لازم نزرعه فى بيتنا؟ "، نضحك كثيراُ و نتحدث كثيراُ و نبتسم أكثر و أكثر. تقطع لى قطعة صغيرة من اللحم من طبقك و تُعطنى الشوكة، أتذوقها و أُثنى على جودة تسويتها و طعمها. أُخبرك أن بدون أى مجاملة و حقيقى حقيقى، الأكل معك له مذاق مختلف. أنتهى من مكرونتى و أُطلب الحساب، و أطلب ان آخذ الستيك تيك أواى.

أخرج من المطعم و أتمشى قليلاً ثم تبدأ السماء فى التنديع، أستمر فى سيرى أحاول الاستمتاع بتلك المطرة الخفيفة و لكنها تشتد و تشتد، لا أريد العودة إلى المنزل الآن و لا أستطيع السير فى هذه المطرة فى نفس الوقت.

أدخل سيارتى و مع صوت تشغيل المحرك، أرمى رأسى على الدريكسيون و أنهار فى بكاء هستيرى من النوع الثقيل، أنظر يمينى و يسارى لأتاكد أن لا أحد يلحظنى ثم أدفن رأسى بين يدى و أبدأ فى إخراج كل الآهات، علا صوت نحيبى جداُ و لم أدرك كم مر من الوقت و أنا أبكى، و لكنى عندما رفعت رأسى، رأيت سيول من المياه، لم أستطع أن أُميز إن كنت ما أراه من سيول، من دموعى التى تملأ عيناى أم من مياه المطر على الزجاج الأمامى للسيارة.

هل جُننت حقاُ؟ لقد انتهت خطوبتنا من عشرة أشهر و لكنى لا أصدق هذا إلى الآن.
أشعر فقط و كأنك غائب عنى لسفر طويل و أن هذا شئ مؤقت، و لهذا أنا أقابلك و أُحدثك كل يوم كما كنا و كما سنبقى!

هل تدرى أنى منتظمة بالاحتفال بكل مناسباتنا وحدى؟
هل تدرى أنى أكتب لك كل يوم، أحكى لك كيف كان يومى، ماذا فعلت فى العمل، من هاتفنى، من ضايقنى، ماذا اشتريت، ماذا أكلت؟
هل تدرى أنى أستمع دوماً إلى الأغانى التى طالما استمعنا إليها سوياً، و أكرر مشاهدة الأفلام التى طالما شاهدناها سوياً؟
هل تدرى أنى صادفت شبيهين لك، صبى تخيلته ابننا، و كهل تخيلته أنت فى عمرك المتقدم؟
هل تدرى انى لم أمح رقم هاتفك من الإتصال السريع (السبيد دايلز) حتى الآن؟

فى العشرة أشهر، فى كل يوم، لم يقل احتياجى إليك ابداً، لأنك أمامى طوال الوقت.
عندما أتوه فى الوصول لطريق ما، أريد أن أتصل بك لأسألك إلى أى جهة أتجه.
عندما أستيقظ، أريد أن أكون أول من يقول لك صباح الفل و أن أكون آخر من يُسمعك "تصبح على خير"، مع أنها كلمات بسيطة.
عندما أقرأ مقالة أو كتاب، أريد أن أرشحه لك و أشجعك على الانتهاء من قراءته لأناقشه معك و لأسألك فيما لم أفهمه منه.
عندما حصل حادث بسيط لسيارتى، أول شئ فعلته تلقائياً أنى اتصلت بك و لكنى أغلقت الخط قبل أن يرن الجرس.
عندما أمُر قريباً من منزلك أو من عملك أو حتى من القهوة التى تجلس عليها، تمسح عيناى المنطقة آملة أن أراك من بعيد و لكنى لا أجدك.
عندما أكون فى السوبر ماركت، أشترى لك بسكويت لووكر بالبندق و توبليرون بالشيكولاتة البيضاء، أكيد لن يصدقنى أحد أنى أحتفظ بهم كلهم فى درج فى مكتبى.
عندما أقابل شخصاً يعمل فى نفس مكان عملك، أسأله هل تعرف .. ثم أخترع أى اسم.

عندما يتملكنى الحنين، أصرخ فى داخلى متى سينتهى بُعدَك عنى، و أظل أشتاق إليك حتى تعود.

Thursday, February 14, 2008

ليلة بدونك

يتصل بها فى عملها صباحاً
- عندى خبر حلو و وحش فى نفس الوقت
- خير؟
- مديرى رشحنى أروح تدريب، التدريب دة بيتكرر كل كام شهر و انا نفسى اروحه بقالى فترة
- طب دة خبر جميل جداً، و الوحش فى كدة؟
- انه لمدة تلات أيام و ...
- و إيه؟
- و برة القاهرة و هيبتدى من انهاردة، هنسافر كمان ساعتين
- اممم .. يعنى هتبات برة البيت؟؟!؟
- احم احم .. غصب عنى، دى فرصة كويسة جداُ
- ...اه أكيد .. ماشى .. طب .. طب هوة ما ينفعش ترجع البيت بليل و تسافر الصبح؟
- ما ينفعش، الطريق طويل جداُ و هيبقى مجهد جد..
- عندك حق .. انا بس مش متخيلة الفكرة .. هننام بعيد عن بعض .. دى أول مرة تحصل من ساعة ما اتجوزنا


بعد العمل، قضت كل المشاوير التى كانت تؤجلها من حين إلى آخر، و تعمدت التأخير حتى ينتهى وقت الليل على قدر المستطاع.
ما ان دخلت البيت، انارت جميع الغرف لتتغلب على أى إحساس بالخوف ربما يباغتها. ادارت الكاسيت على صوت أم كلثوم، هو لا يحب أم كلثوم بتاتاً، يقول لها "ابقى شغليها وانا مش موجود فى البيت".

اخذت تفكر فى كل الطرق التى ستجعلها تشعر أنه ليس بعيد عنها ..
ارتدت بيجامته و اضطررت ان تثنى الكم اربع ثنيات و الرجل خمس ثنيات، و لكن لم تجد حل للوسع إلا بارتداء حزام.
اختارت عطره المفضل لديها، و نثرت منه على وجهها و ملابسها، نثرت كثيراً حتى خافت أن تُنهى ما تبقى منه.
قررت أن تسهر كثيراُ حتى تسقط من النوم، و فعلاً جهزت كوب نسكويك ساخن، و دخلت السرير، لفت نفسها بالبطانية، ارادت أن تشعر بالدفء الكامل، فلن تستطيع الليلة أن تطلب منه بصوت مرتعش "انا بردانة أوى، دفينى"، و لن تستطيع غمس وجهها البارد فى حضنه، أو تشبيك أصابعها المثلجة فى أصابعه.
استنكرت أنها ستمر بليلة أخرى بدونه و استسخفت تهويلها للأشياء و نهرت نفسها "ما تجمدى شوية، أمال هتعملى إيه لو جاله سفر شهر مثلاً!"

أخذت تُكمل قراءة الرواية التى بدأتها مؤخراً إلى أن انتبهت على صوت أذان الفجر، و وجدت نظارتها مٌلقاة جانباً والكتاب على يمينها، توضأت و صلت ثم ارتمت على وسادته، و تمنت أن يجئ فى أحلامها.

Saturday, February 02, 2008

When dreams become reality

From 2000 till 2007, she was always saying:

- I won't have a wedding party
- If I had a party, it will be a limited open one; in a terrace or a garden.
- If I had a party, I don't want to wear a white dress
- If I had a party, I won't make a zaffa
- If I had a party, there will be no dancing.

On 2008 - A night was her wedding and:

- She had a party in a closed hall in a famous hotel.
- She wore a white dress.
- She had a loud zaffa
- And everybody danced...

 

eXTReMe Tracker