بعد انتهاء مدة عمله كساعى مكتب فى وزارة الزراعة و إحالته على المعاش، أوصى كل معارفه و أصدقائه على البحث معه عن أى نوع من العمل، حتى وجد تلك الوظيفة، عامل مصعد فى مبنى إدارى مكون من ستة طوابق.
فى خلال أسبوعين فقط من تلك الوظيفة، استطاع أن يحفظ إلى أى طابق يتجه كل من يعمل بالمبنى و يُميز الضيوف عن العاملين عندما يرى وجوههم.
يصل كل صباح فى السابعة، يُبدل ملابسه و يقف امام المصعد فى تمام السابعة والنصف بزى العمل؛ سترة رمادية ذات أشرطة صفراء على الكتف الأيمن وعلى الجيب الأيسر، و أزرار ذهبية اللون يغلبها الصدأ.
حذاؤه أسود بسيط للغاية، جلده مشقق كدوائر متداخلة و تكاد تخمن عدد المرات التى قبع فيها ذلك الحذاء فى أيدى الإسكافى.
كلما فتح الباب لدخول الناس، يقول "سلاااامو عليكو" و كلما فتحه لخروجهم، يقول "مع ألللف سلامة"، لا يمل أبداً من تكرار تلك الكلمات مئات المرات يومياً بالرغم من عدم اكتراث الناس بسماعها، و لكنها بالنسبة له لغة حوار معهم، حيث أنه لا يعرف أياً من اسمائهم و لم يتسنى له فرصة التحدث إلى أى منهم. هو فى مكانه ليؤدى عمله فقط، لا يريد أن يُكون صداقات أو يترك انطباعات، يفضل أن يكون مستقلاً و "فى حاله" طوال اليوم.
تكاد لا تراه عندما تضغط أنامله على لوحة أرقام الطوابق حتى أن بعض العمال نشروا كلاماً أن لديه قدرات خارقة؛ ينظر بعينه للرقم على اللوحة فيُنفذ المصعد الأمر فى الحال.
ما أٍن يرتفع المصعد عن الدور الأرضى أو يهبط من أى دور، تجده يُصّفر بعذوبة و يُغمض عيناه مرات أو يرفع بصره إلى سقف المصعد من الداخل مرات أخرى، تلك هى عاداته و لم يتسائل أحد أبداً عنها، فهو بالنسبة للجميع حالة خاصة، إنسان هادئ وغريب الطباع و لكن لم يصدر منه قط ما قد يضايقهم.
فى فترة الراحة، يتجه للساحة الخلفية من المبنى و يُخرج غذاؤه من جيبه، ملفوف فى ورق جرائد. وجبته اليومية تتكون من رغيف من الخبز البلدى المحشو إما باذنجان مقلى، قرصين من الطعمية أو جبنة قريش و بيض؛ ما تجود به زوجته مما استطاعت أن تجده متوفر فى صباحهما. يفتح اللفافة و يكتشف نصيب يومه و يتمتم مبتسماً "الله يكرمك يا ام سعاد".
يجلس على الرصيف فى ظل شجرة و يداعب قطته المشمشية، يمرر أصابعه تحت ذقنها فتموء برقة، فيضحك ضحكة طفولية تُظهر ما تبقى من أسنانه بصُفرتها الداكنة.
فى نفس الميعاد كل يوم، بمجرد ظهوره فى الساحة الخلفية، تظهر تلك القطة من اللامكان و تلتصق به، مع أنه لا يُطعمها، فقط يلاعبها، و عندما يبدأ أكله، تجلس أمامه و تنظر إليه فى سكون.
يلتهم الرغيف سريعاً ثم يدخن سيجارتين تِباعاً لأنه لا يستطيع التدخين داخل المبنى، ثم يدس فى فمه قرص نعناع؛ لا يحب أن ينزعج أحد من رائحته داخل كابينة المصعد. يُغمض عيناه و يسند رأسه على جذع الشجرة و يغفو عشر دقائق بالتمام.
عندما تعطّل المصعد و جِئ بالفنيين لإصلاحه، وقف مُحدقاً فيما يفعلون، يبرر لهم "أصل انا بعرف أصلّح الأجهزة الكهربائية .. فأحب أتعلم يعنى"، لم يعترضوا، و الأكثر من ذلك أنهم طلبوا منه أن يشترك معهم.
و بالفعل، فى المرة التالية لتعطل المصعد، لم يُبلغ مديره، و استطاع هو وحده إصلاحه. أخبره بعدها؛ شرح له انه تعلّم من الفنيين فى المرة السابقة و انه أصبح على دراية بآلية عمله.
أعجز كلامه المدير و لم يستطع أن يوبخه بأن ما فعله ليس من مسؤليات وظيفته و أنه بذلك كان من الممكن أن يُعرض حياة بشر لخطر، و لكنه اتصل بالفنيين ليراجعوا ورائه، و عندما كشفوا على المصعد، أكدوا أنه تم إصلاحه بطريقة صحيحة.
السر الذى لم يبح به ابداً لأحد أنه فى الأصل يصاب بالدوار من المصاعد و لم يساعده على تجاوز ذلك لا وجوده اليومى في المصعد ولا عاداته الغريبة التى كان يفتعلها داخله ليشغل نفسه عن الدوار.