ظللنا نتمتع بحرية تحرك كاملة منذ انتقالنا لمسكننا الحالى، لخلو الشقة أسفلنا من السكان، فلم نكن أبداّ نفكر بأن علينا تجنب تحريك أى كرسى أو تجنب سقوط أى شئ على الأرض فى الساعات المتأخرة من الليل، أو أن علينا أن نوقف الأطفال من جريهم و تخبيطهم المعتاد، أو أن علينا مراعاة ألا يكون صوت التلفاز مرتفع.
علٍمنا من رئيس مجلس إدارة العمارة أثناء دفعنا للاشتراك الشهرى أن ساكنة جديدة ستنتقل إلى تلك الشقة أول الشهر، و أنها سيدة مسنة و أن علينا أن نرحب بها و كلام شبيه. أيقننا حينها أنه يجب علينا مراعاة الهدوء فى أسلوب حياتنا فى الشقة.
رجعت من العمل يوماُ لأجد رسالة من الساكنة الجديدة مُثبتة فى بابى، مفادها أنها ترجو منى عدم نشر الغسيل و هو مبتل و أن علّى عصره جيداً و تركت رقم هاتفها. استعجبت بشدة لأن غسيلى على الحبل منذ يومين و كسلى فقط هو ما منع تجميعه. نزلت لأشرح لها الموقف و أدافع عن نفسى. رننت الجرس مرتين و لم تفتح لى بالرغم من سماعى لصوت تلفازها. صعدت مرة أخرى و حادثتها تليفونياً و طلبت منها أن تفتح لى الباب لنتناقش و فعلَت. اعتذرت لى أنها لا تفتح الباب لمن لا تعرفه، و تعرّفنا ببساطة على بعضنا البعض لأول مرة.
حكت لى أنها انتقلت إلى تلك الشقة لأنها صغيرة و تكفيها وحدها بدلاً من شقتها الواسعة التى لم تعد بحاجة إليها بعد سفر ابنتها و وفاة زوجها.
سيدة فى السبعينات من عمرها، ذات جسم صغير و ملامح دقيقة، شعرها فضى لامع منسدل على كتفيها، وجهها أبيض يشوبه الحمرة، تشبه السيدات الأتراك نوعاً ما. تستطيع ان تستنج مستوى تعليمها من كثرة الكلمات الإنجليزية و الفرنسية فى حوارها، و التى تنطقها بسلاسة و تلقائية شديدة.
شرحت لها موقف الغسيل و بدأ الحوار ..
انا: حضرتك انا غسيلى على الحبل بقاله يومين أصلاُ فمستحيل أنه يكون نّقط على غسيلك انهاردة الضهر
هى: انا خرّجت البطانية الصبح علشان تتهوى، جيت أشيلها الساعة اتنين الضهر، لقيتها غرقانة، رفعت راسى لفوق فشفت غسيلك بينقط، حتى كانوا حبة على اليمين و بعد شوية زادوا و بقى فيه على الشمال كمان
انا فى ذهول تام و محتفظة بهدوئى: إذا كنت انا ببقى فى الشغل من تمانية الصبح و ما برجعش إلا خمسة، و الأولاد بيبقوا فى المدرسة برضه تقريباً فى نفس اليعاد.
هى: يبقى ما تأخذنيش، ممكن يكون جوزك
انا: ما هو جوزى برضه فى شغله طول اليوم، و بعدين ما تقلقيش هوة ملوش دعوة خالص بنشر الغسيل
و أخذ الحوار الكثير من الوقت الذى لم اتوقعه، و دخلنا فى مهاترات و توقعات و لم نتفاهم، فهى تتكلم كثيراُ و تسمع قليلاً؛ عنيدة الشخصية. اضطررت أن أنهى النقاش و أن أعٍدها أنى لن أفعل ذلك مجدداُ. خرجت من شقتها و كلى فضول أن أعرف أكثر عن حياة تلك السيدة.
كل صباح، تنثر خديداتها الصغيرة عل طرف شباك غرفة نومها، و كذلك تفرد بطانيتها المشجرة على منشر الغسيل لينالوا قسطهم من الشمس و التهوية.
يتدلى من شباك مطبخها فروع فواكه و خضراوات بلاستيكية الشكل، أما فى شرفتها، تجد تلك الأصارى البلاستيكية المُثبتة فى سور الشرفة، و التى تحتوى على زهور من كل الألوان و الأشكال، بالإضافة إلى زرع اللبلاب الملفوف حول السور.
أثناء نزولى لتوصيل أطفالى لأوتوبيس مدرستهم فى السادسة و النصف صباحاُ، أسمع ما تجود به إذاعة البرنامج العام من بيتها؛ نجاة، عبد الحليم، شادية، فريد، صباح، محمد فوزى أو القرآن الكريم أحياناُ، و تظل الاغانى تشدو حتى ميعاد نزولى أنا و زوجى إلى عملنا فى الثامنة صباحاً.
بدأت ألحظ أيضاُ الأشياء البسيطة فى حياتها، فمثلاُ لون منشر الغسيل برتقالى، و أتوقع أن هذا اللون تحديداً لم يأت صدفة و إنما هو من اختيارها الشخصى.
المشاية أمام باب شقتها، بالرغم من أنها تبدو عليها القدم، إنما تحتفظ بألوان زاهية تلفت إليها أى عين.
تتكون من ألوان عديدة و أشكال غير منتظمة، دوائر و نقط من الأصفر و الأحمر و الأخضر و الأزرق.
لا أمر يوماً من أمامها إلا و تتأملها عيناى ُمحاولة أن أستوعب معنى رسوماتها، و لكنى أفشل و أفكر أنى لو كنت أمتلكها، ما كنت لأتركها على الأرض، سأضعها فى برواز خشبى أسود و سأعلقها على الحائط كلوحة سريالية مُبهرة.
أمام بابها أيضاً تترك اللبن لقطة العمارة فى وعاء صغير لم أرى فى جماله مِثل؛ أبيض اللون بزخارف صينية منمنمة و مرسومة بدقة شديدة باللون الأزرق، من المؤكد أنها صنع يدوى.
و مثلما تمنيت المشاية، تمنيت أن أقتنى ذلك الوعاء، و استنكرت جداُ فكرة أنها ترميه هكذا على الأرض و للقطة، بل إنه يستحق أن يوضع فى دولاب الفضيات كتحفة فنية و يُسلّط عليه إنارة داخلية.
الورقة المثبتة على باب الشقة التى تُكتَب عليها البيانات الشهرية للكهرباء و الغاز، ملونة و مليئة برسومات عصافير و نجوم، حتى رقم الشقة عبارة عن قطعتين خشبيتين متطابقتين من الرقم ثلاثة.
بالرغم من أن كل تفاصيل حياتها تدل على الأرستقراطية، إلا أنه لا يخلو يوم من سماع صوتها العالى؛ إما مناداتها لبائع الجرائد أو بائع الفول، أو مشاجراتها مع البواب لأى سبب، أو صراخها للأطفال الذين يلعبون الكرة فى الجراج، أو شكواها المستمر للجيران من الحياة الصعبة أو الصحة ُالتى ذهبت.
لاحظت لخمسة أيام متتالية أن المشاية لم تعد أمام الباب و أنى لم أعد أسمع صوت الراديو صباحاً، فقلِقت. أطرقت بابها و لكن لم يفتح أحد، سألت من تسكن بجانبها فعلمت ان ابنتها رجعت من السفر و أخذتها لتعيش معها.
بالرغم من رجوع الأطفال للدبدبة و الجرى كما يشاءوا و فى أى وقت، و بالرغم من أننا لم نعد نكترث بأى إزعاج قد يصدر مننا فى ساعات الليل، إلا أننى شعرت بإحساس غريب من الشجن عندما رأيت فرع الفواكه المتدلى من شرفة المطبخ يكسوه التراب و بالرغم من أنى لست من النساء ذوات المشاعر المرهفة، لكننى فعلاُ افتقدت كل تلك الأشياء البسيطة التى عايشتها معها، و من يومها أصبحت إذاعة البرنامج العام تشدو كل صباح فى سيارتى.
Wednesday, April 30, 2008
شقة رقم 33
Subscribe to:
Posts (Atom)