Friday, January 23, 2009

أسانسير


بعد انتهاء مدة عمله كساعى مكتب فى وزارة الزراعة و إحالته على المعاش، أوصى كل معارفه و أصدقائه على البحث معه عن أى نوع من العمل، حتى وجد تلك الوظيفة، عامل مصعد فى مبنى إدارى مكون من ستة طوابق.

فى خلال أسبوعين فقط من تلك الوظيفة، استطاع أن يحفظ إلى أى طابق يتجه كل من يعمل بالمبنى و يُميز الضيوف عن العاملين عندما يرى وجوههم.

يصل كل صباح فى السابعة، يُبدل ملابسه و يقف امام المصعد فى تمام السابعة والنصف بزى العمل؛ سترة رمادية ذات أشرطة صفراء على الكتف الأيمن وعلى الجيب الأيسر، و أزرار ذهبية اللون يغلبها الصدأ.
حذاؤه أسود بسيط للغاية، جلده مشقق كدوائر متداخلة و تكاد تخمن عدد المرات التى قبع فيها ذلك الحذاء فى أيدى الإسكافى.

كلما فتح الباب لدخول الناس، يقول "سلاااامو عليكو" و كلما فتحه لخروجهم، يقول "مع ألللف سلامة"، لا يمل أبداً من تكرار تلك الكلمات مئات المرات يومياً بالرغم من عدم اكتراث الناس بسماعها، و لكنها بالنسبة له لغة حوار معهم، حيث أنه لا يعرف أياً من اسمائهم و لم يتسنى له فرصة التحدث إلى أى منهم. هو فى مكانه ليؤدى عمله فقط، لا يريد أن يُكون صداقات أو يترك انطباعات، يفضل أن يكون مستقلاً و "فى حاله" طوال اليوم.

تكاد لا تراه عندما تضغط أنامله على لوحة أرقام الطوابق حتى أن بعض العمال نشروا كلاماً أن لديه قدرات خارقة؛ ينظر بعينه للرقم على اللوحة فيُنفذ المصعد الأمر فى الحال.

ما أٍن يرتفع المصعد عن الدور الأرضى أو يهبط من أى دور، تجده يُصّفر بعذوبة و يُغمض عيناه مرات أو يرفع بصره إلى سقف المصعد من الداخل مرات أخرى، تلك هى عاداته و لم يتسائل أحد أبداً عنها، فهو بالنسبة للجميع حالة خاصة، إنسان هادئ وغريب الطباع و لكن لم يصدر منه قط ما قد يضايقهم.

فى فترة الراحة، يتجه للساحة الخلفية من المبنى و يُخرج غذاؤه من جيبه، ملفوف فى ورق جرائد. وجبته اليومية تتكون من رغيف من الخبز البلدى المحشو إما باذنجان مقلى، قرصين من الطعمية أو جبنة قريش و بيض؛ ما تجود به زوجته مما استطاعت أن تجده متوفر فى صباحهما. يفتح اللفافة و يكتشف نصيب يومه و يتمتم مبتسماً "الله يكرمك يا ام سعاد".

يجلس على الرصيف فى ظل شجرة و يداعب قطته المشمشية، يمرر أصابعه تحت ذقنها فتموء برقة، فيضحك ضحكة طفولية تُظهر ما تبقى من أسنانه بصُفرتها الداكنة.
فى نفس الميعاد كل يوم، بمجرد ظهوره فى الساحة الخلفية، تظهر تلك القطة من اللامكان و تلتصق به، مع أنه لا يُطعمها، فقط يلاعبها، و عندما يبدأ أكله، تجلس أمامه و تنظر إليه فى سكون.

يلتهم الرغيف سريعاً ثم يدخن سيجارتين تِباعاً لأنه لا يستطيع التدخين داخل المبنى، ثم يدس فى فمه قرص نعناع؛ لا يحب أن ينزعج أحد من رائحته داخل كابينة المصعد. يُغمض عيناه و يسند رأسه على جذع الشجرة و يغفو عشر دقائق بالتمام.

عندما تعطّل المصعد و جِئ بالفنيين لإصلاحه، وقف مُحدقاً فيما يفعلون، يبرر لهم "أصل انا بعرف أصلّح الأجهزة الكهربائية .. فأحب أتعلم يعنى"، لم يعترضوا، و الأكثر من ذلك أنهم طلبوا منه أن يشترك معهم.
و بالفعل، فى المرة التالية لتعطل المصعد، لم يُبلغ مديره، و استطاع هو وحده إصلاحه. أخبره بعدها؛ شرح له انه تعلّم من الفنيين فى المرة السابقة و انه أصبح على دراية بآلية عمله.
أعجز كلامه المدير و لم يستطع أن يوبخه بأن ما فعله ليس من مسؤليات وظيفته و أنه بذلك كان من الممكن أن يُعرض حياة بشر لخطر، و لكنه اتصل بالفنيين ليراجعوا ورائه، و عندما كشفوا على المصعد، أكدوا أنه تم إصلاحه بطريقة صحيحة.

السر الذى لم يبح به ابداً لأحد أنه فى الأصل يصاب بالدوار من المصاعد و لم يساعده على تجاوز ذلك لا وجوده اليومى في المصعد ولا عاداته الغريبة التى كان يفتعلها داخله ليشغل نفسه عن الدوار.

18 comments:

Heba El-Desouky said...

Bravo 3leeke ya Eman.
ana mosh men al ans al bt7ab al 2araya 7'ales, bas b gad btshadene b aslobek al ra2e3 da, Keep It.

Anonymous said...

I'm not an experianced author nor a reader. It was as if I see a movie. But I was looking for a wisdom or a conclusion at the end of the story.

Abdullah

Anonymous said...

2zayak ya eman
7a2i2y 2slobak ra23 wa tafasilak hayla,wa sardik lel tafasil el so3'ayara momtaz.
bas fi 7aga kont badawer 3alaha ma3a kol fakra...wa heya el nehaya 2w 3laket 27'er kol fakra be 2wel el ba3diha :) ya rab 2kon 2dert 2wasalek ana 3awez a2ol 2ah.
bas beravo 3aleky
ahmed abd el khalik

Eman M said...

@Heba, thank you:)

@Abdallah, mesh shart every short story to end by a conclusion or a wisdom; mine just describes a portrait of someone's daily life.

@Ahmed, shokran, heya el fekra kollaha fe el ending, en howa kan kol el 7agat el 3ageba elli bey3melha gowa el asasner, 3ashan howa aslan beygelo dokha meno, f bey7awel yensa dah.. deh el fekra.

Anonymous said...

Thanks, for writing this portrait.
Some years ago I used to make monthly visits to a building and each time I take the elevator I couldnot help but realise the wired gestures the man is doing. Belive it or not, He was exactly as your character.
I salute your talent.
Hani

إيمان said...

أسلوبك جميل وبسيط وقريب من القلب والعقل... ربنا يوفقك .. ونقرألك روايه كبيره فى يوم من الأيام

Ola Abbady said...

Gameel ya emy i love the hero of ur story

mohra said...

جميله يا ايمان كالعاده...يا ريت تقدرى تنشرى قصصك فى يوم من الايام
مش عارفه ليه افتكرت رجل امن عجوز اتعين علشان مبنى بيتبنى عندنا فى الشغل ...مع الوقت اتحول المبنى الغير كامل لجراج و اتحول رجل الامن العجوز لسايس..كل ما اشوفه ما اقدرش امنع نفسى من التفكير فى حال الدنيا

Anonymous said...

Great=)

Anonymous said...

A M A Z I N G ending .... to the extend that I kept my mouth and eyes opened for a few seconds .. what an end!

david santos said...

Great!!!!
Congratulations!!!!

Amr Ibrahim said...

very nice and special as usual

Anonymous said...

انتي كل مرة بتدهشيني بجد

Unknown said...

Did u really write this?...i was really impressed..it's wonderful.....especially when describing the relation between the man and the cat.

Eman M said...

ya gama3a, shokran 3ala tashge3kom :)
3aiza shweyt criticism tayeb..

Eman Rashad said...

عجبنى بجد اسلوبك
تحفه
و فى انتظار المزيد

Borsa said...

thanks for this blog

and i'll take a copy for me please

مشاهدة مباراة الأهلى والانتاج الحربي بث مباشر
مشاهدة مباراة الزمالك والمنصورة بث مباشر
مشاهدة مباراة الأهلى والانتاج الحربي
مشاهدة مباراة الزمالك والمنصورة

فاتورة التليفون said...

شكرا لك على الموضوع
تقبل تحياتى

 

eXTReMe Tracker