نشأت وحيداً بلا إخوة، لم تكن علاقتي بأمي مثل ما كنت أرى و أسمع من بقية الأطفال فى الحضانة أو المدرسة، كانوا يفترضون أني طفل مدلل كونى وحيداً.
فى نهاية كل يوم، يهرعون جميعاً من الفصول جرياً إلى أمهاتهم و يقفزون إلى أحضانهن. أما أنا، فعندما كان يسمح وقتها بإلتقاطى، فقط أُعلق يدي فى ذراعها و نتجه للسيارة صامتان، تتشبث هي بعجلة القيادة و تتيقظ للطريق أمامها، و ألصق أنا وجهي بالنافذة اتأمل الشوارع، و نظل هكذا حتى نصل للبيت.
هي ممن يقال عنهن المرأة الحديدية، وجه صارم ذو ملامح حادة، لا وقت لديها للمشاعر أو الأحاديث الطويلة، عملية إلى أقصى درجة وعلى قدر من العصبية أتعجب من قدرة أبي على التعايش معه.
طوال أعوامي، كانت منكبة دائماً على مكتبها، بدايةً من المذاكرة للماجستير ثم للدكتوراة تباعاً، إلى تجهيز محاضراتها و تصحيح أوراق الامتحانات و كتابة مذكرات الجامعة.
بسبب أشغالها الدائمة، لم نكن تلك الأسرة التى تذهب إلى النادي يوم الجمعة أو تجتمع مع أفراد العائلة فى بيوت الأجداد ليلة الخميس أو حتى تلتف حول التلفاز لمشاهدة مسرحية كوميدية تعرض لأول مرة.
كم من المواقف بيننا لا أستطيع نسيانها، أصعبهم هو عندما كنت فى السادسة من عمري، كنت فى غرفتها، أعبث بحاجياتها وأبهرتنى القطع الملونة فى علبة مكياجها التى نادراً ما تُفتح، حتى انقلبت مني العلبة كاملةً على الأرض، و كانت ليلة سوداء.
ما ان رأت الفتافيت مبعثرة فى كل اتجاه حتى صدر منها صرخة مدوية و انهوت علىّ ضرباً و ركلاً بيديها ورجليها فى جميع أنحاء جسمي: "انت عارف دي بكاااااااام! أعمل فيك إيه! أرميك من الشباك و أخلص منك؟!ّ يا رب خده و ريحنى منه!".
عندما عاد أبي من عمله، وجد كل منا فى غرفته فى نوبة بكاء هستيري. كانت عيناي مثل كرات الدم ووجهى أزرق ممقوت و جسمي يرتعش كطائر قد تم ذبحه للتو. حملني على مستشفى قريب، وُضع ذراعي الأيمن فى جبيرة و كان التبرير حينذاك أني وقعت فى البيت أثناء اللعب.
ظللت فترة ليست بقليلة أخاف منها و أتجنبها، و لا أدرك معنى و سبب شتائمها لى و دعائها علىّ...
سألت أبي: انا عارف ان انا غلطان انى لعبت فى حاجة مش بتاعاتي، بس هى ماما كانت متضايقة أوي كدة ليه؟
أجلسني أبي على حجره و حكى لي ان ولادتي لم تكن بعملية سهلة، فقد احتاجا لإجراء العديد من العمليات حتى تم حملها، و من الشهر الخامس إلى ميعاد الولادة، كان قد أكد لها الطبيب أن جنينها سيكون بنت. كانت الصدمة فى غرفة العمليات بعدما أفاقت من التخدير، لأني انا من وجدت و ليست "نسمة" كما أرادت أن تسمي.
و عندما عادت إلى المنزل، جمّعت ملابس نسمة و طلبت من أبي أن يتخلص منها.
و أصبحت و أمسيت تبكي لليالٍ عديدة، و كانت جدتي من أمي هى من ترعاني فى أسابيعي الأولى.
من طفولتي إلى زواجي، لم تتدخل فى شئوني أو تسألني عن أى شئ متعلق بي أبداً، ما أرتديه، من هم أصدقائي، متى أعود مساءاً إلى البيت، مواعيد تدريبات النادي، مواعيد الدروس، حتى أهم و أصعب إختيارين فى الحياة؛ اختياري للكلية بعد الثانوية العامة و اختيارى لزوجتي. كانت كلماتها دوماً:
- "اعمل اللى انت عايزه بس استئذن باباك الأول"
- طب انتي رأيك ايه يا ماما؟
- انا ماليش رأى، قال يعنى اما أقولك رأيي هتسمع الكلام، ما انت فى الآخر هتنفذ اللى فى دماغك.. يبقى ليه وجع الدماغ من اصله بقة، شوف مع باباك.
أعترف الان أنى لم أحاول جاهداً فى التقرب إليها، حتى هدايا عيد الأم، عندما وجدت عدم اهتمام و تقدير منها لما أشتريه لها، أمتنعت عنها، لا أتذكر آخر مرة اشتريت لها هدية، ربما من عشر أو خمسة عشر سنة.
الآن و في هذه الدقيقة، ترقد أمي فى سريرها، مغطاة بالأبيض و نحن فى انتظار عربة نقل الموتى. أجلس انا فى مدخل البيت؛ لا أذرف دمعاً و لا أدري إن كنت حزين، و لكن أشعر بالندم على أنى لم أُعلمها يوماً أنى كنت دوماً اتمنى ان تحتضنني.
Saturday, October 17, 2009
لم اكن أبداً طفلاً مدللاً
Saturday, May 30, 2009
زى كل يوم
أستيقظ فى العاشرة صباحاً مثل كل جمعة. أجدها جهزت الإفطار المعتاد لليوم، البيض المسلوق، الجبنة البيضاء، الزيتون الأسود و العيش الشامي. إفطار أيام وسط الأسبوع يختلف، فول ومربى فقط، يتغير نوع المربى من الفراولة للجزر للتين أو المشمش، على حسب المزاج.
أخذ حمام الجمعة، نفس المنشفة الرمادية المخططة الباهتة كأنها غسلت مليون مرة مع أني أشتريتها من شهرين فقط.
أفتح دولابي، نفس بنطلون الجينز المتآكل، نفس الخمس جوارب، نفس الثلاث بنطلونات، نفس القمصان اليومية، أريد أن أشتري قميص جديد، و لكنها حرّمتني أن أفعل ذلك. تستخدم الكلور فى الغسيل، فأصبحت جميع ألوان ملابسي باهتة.
أعود إلى المنزل بعد صلاة الجمعة، لأجد البيت غارق فى نفس رائحة البخور الأسبوعية. البخور التى أشتريها من نفس العطار أول شارعنا. كل مرة يلقي على مسامعي أحاديثه المملة عن تفرده فى استيراد تلك البخور من الهند و عن مكوناتها الطبيعية و مميزاتها و عن العائلات التى ترسل له سائقها الخصوصي كل فترة ليجلب تلك النوع المميز بروائحه المختلفة. أخذ نوعي الدائم و ارحل.
أدخل إلى غرفتي لأمدد جسدي لساعة قبل الغذاء. نفس الملائة التى تتبدل كل أسبوع مع واحدة أخرى، نفس البطانية الواحدة التي تشبه ما يوزعوه فى الجيش، امم كم أتمنى أن اتدفأ ببطانية كتلك التى كانت فى اعلانات ساراتوجا.
أدفس وجهي فى الوسادة، لا تسمع أذناى من السكون غير نفس دقات الساعة، صوت الثلاجة، تنقيط المياة فى الحمام، نداء بائع الجرائد، صراخ الأطفال و هم يلعبون الكرة.
أستيقظ من نومي على سعال شديد، مش ممكن، تستخدم المبيدات الحشرية كأنها معطرات للجو.
على المائدة، نفس الأكل؛ فراخ محمرة، أرز و صينية كوسة فى الفرن. انها دائماً إما كوسة أو فاصوليا خضراء أو بطاطس، كم أشتاق إلى الملوخية أو ..
- انتى ما بتعملنلاش بامية ليه؟
- بامية؟ و انت من امتى بتحب البامية؟
- اهه بقة .. نفسي فيها
- ماشي يا سيدي، الجمعة الجاية اعملهالك
- و ليه الجمعة؟ ليه مش بكرة؟
- مالك يا راجل؟ مش عاجبك حاجة ليه انهاردة!
- آل يعني هية فارقة معاكى!
- يا فتاح يا عليم، خلينا نكمل أكل على خير الله يخليك.
بعد الأكل نرتمي أمام التلفزيون و البنت تلعب حولنا، جدائل شعرها ملفوفة بنفس الشرائط الحمراء فى نفس شكل الضفيرة اليومية. أنادي عليها و أُجلسها أمامي، أحل ضفائرها و أمرر أصابعي لأفك التشابكات و التداخلات، أحاول الابتكار و كلما انتهي من فكرة، أنظر لوجه البنت فلا تروقنى فأحل شعرها من جديد، و هكذا حتى سويته لها فى الآخر على شكل ذيل الحصان التقليدي.
تجلس زوجتى بجانبى لا تصدق ما تراه مني، البنت عمرها ثلاث سنوات، لم أهتم يوماً بشكل شعرها و لا لبسها.
أقبض على ريموت التلفزيون بقوة و أُخرج كبتي فى الضغط على أزراره و أتنقل بين القنوات، تمثيل ممل و أغاني تافهة و برامج مكررة و نساء تلف العقل.. أوفف .. انا نازل القهوة.
أنادي على الصبى
- عندكو إيه يتشرب انهاردة
- إيه يا أستاذنا، بتسأل و كأنك اول مرة تشرفنا
- معلش يا سيدي، سمعنا تاني، عايز أختار حاجة جديدة
- عناب، قرفة سادة، قرفة بالحليب، جنزبيل بالحليب، سحلب، شاي بالنعناع، كركديه، ينسون، حلبة حصى .. هة مين قال كمان.. ايه يا عمنا في إيه؟
- ما عندكش موز باللبن؟
- أفندم؟ لا والله، لو عايزه ضروري يعنى، فيه كافتيريا فى أول الشارع، بس خلي بالك دول حراقين أوي
- حراقين إزاي يعني؟
- بيدّفعوك عشرين جنيه، شربت موز شربت مية، هتدفع .. يا باشا خليك منورنا و انا هاروقك آخر تمام
- لأ خلاص شكراً
نفس نشرة أخبار التاسعة، نفس المذيعين، نفس الأخبار؛ قتل، انفجار، قنبلة، اعتصام، مظاهرة، و ما حولي هي نفس الأصوات اليومية من أحجار النرد و الدومينو، غلظة سعال المدخنين، كركرة الشيشة و صيحة فائز فى دور كوتشينة.
أرحل من القهوة و أسير لفترة طويلة حتى أصل لكورنيش النيل، أجلس على دكة و أسرح فى الألوان المختلفة على سطح النيل حتى أقع فى النوم.
Thursday, April 30, 2009
صاحبة كل الناس
قابلتها صدفة، لم تتغير كثيراً، فقط بطنها منتفخة أمامها، عانقتنى بشدة و قبلتنى بحماس لم أتوقعهما، لقد مرت عشر سنوات منذ تركنا المدرسة و لم نتقابل منذ ذلك الحين. لم نكن أصدقاء قريبين و لكن كانت هى أكثر الشخصيات تودداً لكل البنات. "صاحبة كل الناس" كما كان يطلق عليها.
تبادلنا الحديث عما فعلته بنا الحياة فى السنوات الماضية و ما آل إليه حالنا، سألتنى إن كنت على صلة بأى من البنات، فأجبتها بالنفى. أخرجت هاتفها من حقيبتها و هى تسرد لى أسمائهن مؤكدة أنها تحتفظ بأرقامهن جميعاً و حفِظت رقمى. قررَت أن تلك فرصة مناسبة لتنظيم لقاء كبير و انها ستبلغنى الأسبوع القادم بالميعاد و المكان.
و قد كان، ذهبت فى رداء أنيق متخوفةً من تلك المقابلة، وجوه لم أرها منذ زمن، لا أتذكر الكثيرات منهن، سيسألننى لماذا لم أتزوج بعد و سندخل فى الحديث السخيف عن الرجل المناسب و الوقت المناسب و النصيب و هذا الكلام الممل.
أصل إليهن، يصدمنى العدد الهائل، أتمتم فى سرى "أمّا صحيح صاحبة كل الناس". بعد التحيات و السلامات، تحكى كل واحدة عما وصلت إليه.
أنصت كثيراً؛ من تُحب غير سعيدة، من لا تُحب غير سعيدة، المتزوجة غير سعيدة، غير المتزوجة غير سعيدة، من يلتف حولها أطفالها غير سعيدة، من لم تُرزق بأطفال بعد غير سعيدة، من تعمل بشركة كبيرة غير سعيدة، من تعمل بشركة صغيرة غير سعيدة، من لا تعمل غير سعيدة. أتسائل، كلهن يتكلمن عن "السعادة" من أفقهن الضيق الخاص، و لكن هل يعلمن ما هي السعادة الحقيقية؟
مع كثرة عددنا، انفصلت كل اثنتان فى حديث جانبى، و التقطت أذناى بعض الجمل المتناثرة ..
- علشان كل راجل عايز يتجوز امرأة جميلة، و كل راجل متجوز بيلعن حظه أن مراته مش بالجمال الكافى اللى كان نفسه فيه و يفضل يعايرها بالكلام أو حتى بالصمت أنها مش زى فلانة أو علانة. اللى نفسى أفهمه ليه ما بيسألش نفسُه الأول إن كان يستحق أصلاً الجمال اللى بيتمناه دة و إن كانت فلانة أو علانة هيرضوا بيه من الأساس.
..
- لأ انا دايماً بأحلم أنى فى موقف محتاج إنقاذ، و أنى بحاول أصرخ و صوتى كانه أختفى، مش عايز يطلع، و لا حتى مبحوح.
..
- انا بقى عشان بشتغل فى الحكومة، لما بأنجز الأوراق بطريقة سلسة لحد، بيفتكرونى بعمل كدة علشان أخد المعلوم. كذا مرة حد يدينى ظرف و يستغرب أوي لما أرفض.
..
- بس انا فعلاً كل ما أتكلم مع أى شاب بقالي فترة مش قليلة، بأحس انى أعقل منه.
و ما تقولوليش "احتمال لسة ما قابلتيش الشاب المناسب"، لأن انا بسمع نفس حوار العقل دة من بنات كتير اوي أعرفهم و ما أعرفهمش.
..
- طب و دكاترة إيه اللى انتى بتتكلمي عليهم؟ الطب أصبح معناه تجارة الأعضاء و سرقات الكلى وعمليات الليزر والتجميل و بس.
..
- حلو اوي موضوع دراسة علم النفس دة، طيب انا عندي سؤال محيرني بقاله كتير؛ لما الإنسان بيفقد الذاكرة، بيفقد مشاعره برضه؟
..
- انتى واخدة بالك انتى بتقولي إيه؟ انتى معترضة أوى ان السواق طلب منك تلاتة جنيه زيادة، و من شوية بتشتكى من ان الأكل ما كانش حلو فى المطعم اللى دفعتى فيه متين جنيه و ما كانش يستاهل. انا عندي ملاحظة هنا، انا واخدة بالي ان كلنا، مش انتي بس بنبخل ندفع فلوس أكثر لو كان أجر إنسان، بس ما عندناش مانع ندفع نفس الفلوس فى أي حاجة مادية حتى لو ما كانتش ليها قيمة أوي؟
..
- زمالك؟ حرام عليكي، هوة لسة فيه حد بيشجع الزمالك؟ بس عارفة؟ بعيداً عن أهلى ولا زمالك، انا بحسد لعيبة الكرة دول على حاجة واحدة؛ الوقت بدل الضائع اللى بياخدوه، ليه مفيش فى حياتنا وقت زى دة؟ اشمعنى همة؟
..
- قلتلها انا عايزة فلوسي ترجعلي، ازاى متخيلين انى هأقف أخد أيروبكس مع مدربة وزنها تقيل و بطنها باينة بالشكل دة.
..
- انتى متعرفيش يعني ايه انك تستني الاتوبيس فى الحر و الشمس لمدة ساعة و نص، و لما ييجي، متعرفيش تطلعى من كترة الزحمة، بجد احساس مُهين جداً.
..
- يا ريت ألاقى البطيخ يتباع مكعبات جاهزة، بدل تقشيره، و يا ريت لو كان من غير بذر كمان، انا أول واحدة هاشتريه لو نزل السوق كدة.
..
- ديمقراطية إيه اللى بتتكلمي عنها؟ دة انتي فى بلد الواحد يسمعك بمنتهى الاهتمام، و يديكي فرصة تقولى كل اللى عندك، و بعديها يقوم منفذ اللى فى دماغه برضه.
أصاب بدوار و صداع شديد من كثرة الثرثرة و الصوت العالي و تداخل المواضيع، أنسحب بهدوء و بدون استئذان.
Friday, March 27, 2009
جمع مؤنث سالم
كما هو الحال كل يوم، تعود من عملها فى الثالثة و النصف عصراً، تتجه إلى المطبخ لتجهيز أكل اليوم. اشترط عليها من فترة الخطوبة أنه لا يحب الأكل البائت، لا يمانع أن يتكرر نفس نوع الأكل و لا يمانع أن يكون بكمية قليلة، و لكن شرطه أن يكون طازج ليومه.
يصل هو فى الخامسة و النصف، و تكون المائدة جاهزة فى السادسة تماماً، أمامه السلطة والحساء الذى يتصاعد منه البخار، و أى شئ من طبق اليوم.
تبادلا الحديث أثناء الأكل عما دار عليه يومهما، و بعدما انتهيا، قام و ترك طبقه كالعادة. نظرت إلى ظهره و همت أن تصيح به أن يرجع و يساعدها فى نقل الأطباق إلى المطبخ و لكنها آثرت الصمت؛ لم ترد ان تبدأ مشاجرة اليوم.
تمدد هو على الأريكة فى غرفة المعيشة و بدأت أصوات البلاى ستاشين تملأ البيت.
لملمت هى ما كان على مائدة الطعام ووقفت لتغسلهم، انزلق طبق منها فى الحوض و انكسر، أخذت تجمع بقاياه فجرحت إصبعها. نادت عليه، لم يسمعها.
فتحت المياه و تركتها تحنو عليه و انسابت الدموع على خديها؛ "اشمعنى هوة جه أكل و دخل يلعب و هيخش ينام بعد كدة و أنا اللى معكوكة هنا لوحدى، و هو أنا ما ليش نفس ألعب أو أنام يعنى؟"
أوووووه ياهووووووووووووو .. سمعت أصواته المتحمسة تأتى من الغرفة، تمتمت فى نفسها "طب يا رب ما تكسب.. هيه"
مرت من أمامه حاملةً سبت الغسيل، تتدلى منه أكمام قمصانه، سألته "عندك حاجة عايز تغسلها؟". لم يرد. "قال يعنى الموضوع محتاج تركيز أوى، يا أخى رد عليا!".
- طب مش عايز تشرب حاجة؟
- هه؟ لا لا كمان شوية استنى بس أحسن فاضل 20 ثانية و الجيم يخلص
أدخلت الملابس الغسالة و أدارتها، ثم جمّعت ما كان على الحبل و مرت أمامه ثانيةً متصنعة ثقل ما تحمله، و لكن لا حياة لمن تنادى.
فى غرفتهما، سوت الملابس و رتبتها على الرفوف، تعمدت إسقاط أشياء لعل وعسى أن يأتى على الصوت، و لكنه لم يأت. آلمها ظهرها، تتعاطى الكثير من المسكنات و لكن لا فائدة، لم تتحمل، اتجهت و هى محشودة بالغضب لتواجهه.
لم يفاجئها المشهد؛ رأسه ملقاة للوراء و رجلاه ممددتان على الطاولة و غطيطه يكاد يكون مسموعاً. اغتاظت و اشتد جنونها.
تركته و دخلت لتتزين، ارتدت لون مبهر و خلخال و قرط متدلى يصدر أصواتاً رنانةً، و نثرت من عطرها النفاذ.
هزت كتفه، حبيبى مش تقوم نقعد مع بعض شوية؟
- اممم
- يلا عشان خاطرى، انا كنت عايزة اتكلم معاك فى موضوع
- اممم
- طب فتح عينيك و بصلى كدة .. حاول
- امممم
هزته بشدة صائحة بعصبية: طب اتفضل قوم نام فى السرير، قوم!
- اممم حاضر
اتكأ عليها مترنحاً حتى وصل للسرير، لفته بالغطاء جيداً كأنه طفلها الصغير، جلست بجانبه تتأمل ملامح وجهه، ربتت على شعره و قبّلته على جبينه، ثم ذهبت لتلقى نظرة على الغسالة التى لم تنته بعد.
Friday, February 27, 2009
لستُ جميلة
بدأ الموضوع فى المدرسة؛ كانت هى فى المرحلة الابتدائية و أختها فى المرحلة الاعدادية، تتقابلن يومياُ فى ساحة المدرسة فى الفسحة ليتقاسمن ما معهن من سندوتشات و حلويات.
سأل أصدقاء الأخت الكبرى عنها.
- دى اختى الصغيرة
- أختك؟؟؟؟ ايه دة مش شبهك خااااالص
- مش شبهى إزاى يعنى؟
- يعنى .. ممم ... مش شبهك و خلاص
تأملت وجوهن وهن يحاولن إخفاء ضحكات مكتومة و استغربتهن.
عندما عادت إلى المنزل، دخلت غرفتهن المشتركة و أغلقت الباب عليها، أمسكت صورة أختها فى يدها، و تسمرت أمام المرآة لمدة نصف ساعة كاملة تقارن بين وجهها و الوجه الذى فى الصورة، ثم اتجهت إلى أمها فى المطبخ.
- ماما، ممكن تشرحيلى انا ليه شعرى ناشف و واقف و مها شعرها ناعم .. و كمان ليه انا سمراء و وشى مليان حبوب و مها وشها أبيض و مفرود
- بسم الله الرحمن الرحيم! ايه يا حبيبتى الكلام دة، انتى اتكلمتى مع مين انهاردة بالظبط
- لو سمحتى يا ماما ردى علية
أخذت تقنعها بالكلام المعروف ان الله يخلق كل انسان بطبيعة مختلفة عن الآخر، و انه لا يوجد انسان كامل، و ان الجمال جمال الطباع و الشخصية أكثر من الوجه
و فى النادى، عندما ألحقتهم أمهم فى التدريب الصيفى لفريق كرة اليد، تعجب الكابتن من أنهن أختين. و مع مرور الأيام، بدأت تضيق ذرعاً بعلامات التعجب التى تراها فى عيون كل من يتعامل معهن سوياً.
سمعت جدتها تحاور أمها يوماً..
- انتى لازم تدلعى بنتك دى شوية، بالمنظر اللى انتى سايباها بيه دة مش هتتجوز اما تكبر
- سايباها بيه؟ سبحان الله .. انتى بتتكلمى كدة و كأنى انا السبب
- طب ما توديها لدكتور يشوف حل او علاج للحفر اللى فى وشها ديه
- ما انا سألت واحدة صاحبتى بس قالتلى علاج الحاجات دى مكلف أوى فـانا محتاجة اكلم باباها فى القصة دى الأول، هيقعد يقولى الميزانة و مش الميزانية و بناتك و انتى مدلعاهم و السيرة اللى ما بخلصش منها دى.
فى المرحلة الثانوية، حيث المراهقة و بداية مشاعر الأنوثة، كانت توفر كل مصروفها لشراء مستلزمات تجميل لها؛ جربت جميع انواع كريمات تفتيح البشرة، كانت تذهب لمصفف الشعر كل سبت لكى شعرها، ابتاعت ملابس بألوان زاهية و أكسسورات مبهرة، و لكن كانت دوماً تحرص ألا تكون مبالغة أو ملفتة.
فى آخر سنة جامعية، عندما أبدى شاب إعجابه بها و بجمالها، ابتسمت ابتسامة صفراء و أجابته فى سرها "هل تظننى امرأة غبية؟"
و لكنه كان صادقاً؛ رآها كذلك. و تطورت الأمور لصورة من بيت دافئ و طفلة صغيرة، فى الوقت الذى لم تتزوج اختها بعد.
Friday, January 23, 2009
أسانسير
بعد انتهاء مدة عمله كساعى مكتب فى وزارة الزراعة و إحالته على المعاش، أوصى كل معارفه و أصدقائه على البحث معه عن أى نوع من العمل، حتى وجد تلك الوظيفة، عامل مصعد فى مبنى إدارى مكون من ستة طوابق.
فى خلال أسبوعين فقط من تلك الوظيفة، استطاع أن يحفظ إلى أى طابق يتجه كل من يعمل بالمبنى و يُميز الضيوف عن العاملين عندما يرى وجوههم.
يصل كل صباح فى السابعة، يُبدل ملابسه و يقف امام المصعد فى تمام السابعة والنصف بزى العمل؛ سترة رمادية ذات أشرطة صفراء على الكتف الأيمن وعلى الجيب الأيسر، و أزرار ذهبية اللون يغلبها الصدأ.
حذاؤه أسود بسيط للغاية، جلده مشقق كدوائر متداخلة و تكاد تخمن عدد المرات التى قبع فيها ذلك الحذاء فى أيدى الإسكافى.
كلما فتح الباب لدخول الناس، يقول "سلاااامو عليكو" و كلما فتحه لخروجهم، يقول "مع ألللف سلامة"، لا يمل أبداً من تكرار تلك الكلمات مئات المرات يومياً بالرغم من عدم اكتراث الناس بسماعها، و لكنها بالنسبة له لغة حوار معهم، حيث أنه لا يعرف أياً من اسمائهم و لم يتسنى له فرصة التحدث إلى أى منهم. هو فى مكانه ليؤدى عمله فقط، لا يريد أن يُكون صداقات أو يترك انطباعات، يفضل أن يكون مستقلاً و "فى حاله" طوال اليوم.
تكاد لا تراه عندما تضغط أنامله على لوحة أرقام الطوابق حتى أن بعض العمال نشروا كلاماً أن لديه قدرات خارقة؛ ينظر بعينه للرقم على اللوحة فيُنفذ المصعد الأمر فى الحال.
ما أٍن يرتفع المصعد عن الدور الأرضى أو يهبط من أى دور، تجده يُصّفر بعذوبة و يُغمض عيناه مرات أو يرفع بصره إلى سقف المصعد من الداخل مرات أخرى، تلك هى عاداته و لم يتسائل أحد أبداً عنها، فهو بالنسبة للجميع حالة خاصة، إنسان هادئ وغريب الطباع و لكن لم يصدر منه قط ما قد يضايقهم.
فى فترة الراحة، يتجه للساحة الخلفية من المبنى و يُخرج غذاؤه من جيبه، ملفوف فى ورق جرائد. وجبته اليومية تتكون من رغيف من الخبز البلدى المحشو إما باذنجان مقلى، قرصين من الطعمية أو جبنة قريش و بيض؛ ما تجود به زوجته مما استطاعت أن تجده متوفر فى صباحهما. يفتح اللفافة و يكتشف نصيب يومه و يتمتم مبتسماً "الله يكرمك يا ام سعاد".
يجلس على الرصيف فى ظل شجرة و يداعب قطته المشمشية، يمرر أصابعه تحت ذقنها فتموء برقة، فيضحك ضحكة طفولية تُظهر ما تبقى من أسنانه بصُفرتها الداكنة.
فى نفس الميعاد كل يوم، بمجرد ظهوره فى الساحة الخلفية، تظهر تلك القطة من اللامكان و تلتصق به، مع أنه لا يُطعمها، فقط يلاعبها، و عندما يبدأ أكله، تجلس أمامه و تنظر إليه فى سكون.
يلتهم الرغيف سريعاً ثم يدخن سيجارتين تِباعاً لأنه لا يستطيع التدخين داخل المبنى، ثم يدس فى فمه قرص نعناع؛ لا يحب أن ينزعج أحد من رائحته داخل كابينة المصعد. يُغمض عيناه و يسند رأسه على جذع الشجرة و يغفو عشر دقائق بالتمام.
عندما تعطّل المصعد و جِئ بالفنيين لإصلاحه، وقف مُحدقاً فيما يفعلون، يبرر لهم "أصل انا بعرف أصلّح الأجهزة الكهربائية .. فأحب أتعلم يعنى"، لم يعترضوا، و الأكثر من ذلك أنهم طلبوا منه أن يشترك معهم.
و بالفعل، فى المرة التالية لتعطل المصعد، لم يُبلغ مديره، و استطاع هو وحده إصلاحه. أخبره بعدها؛ شرح له انه تعلّم من الفنيين فى المرة السابقة و انه أصبح على دراية بآلية عمله.
أعجز كلامه المدير و لم يستطع أن يوبخه بأن ما فعله ليس من مسؤليات وظيفته و أنه بذلك كان من الممكن أن يُعرض حياة بشر لخطر، و لكنه اتصل بالفنيين ليراجعوا ورائه، و عندما كشفوا على المصعد، أكدوا أنه تم إصلاحه بطريقة صحيحة.
السر الذى لم يبح به ابداً لأحد أنه فى الأصل يصاب بالدوار من المصاعد و لم يساعده على تجاوز ذلك لا وجوده اليومى في المصعد ولا عاداته الغريبة التى كان يفتعلها داخله ليشغل نفسه عن الدوار.